تعيش المنطقة على وقع الاتفاق النووي الذي استنفر قياداتها ومسؤوليها كافة من إسرائيل الى الخليج، وقد جاءت قمة العلَمين الأخيرة التي انعقدت في جمهورية مصر العربية والتي ضمت زعماء كل من مصر والإمارات والبحرين والأردن والعراق، ولو أن رئيس وزرائه مصطفى الكاظمي اضطر الى الانسحاب المبكر من القمة للعودة سريعاً الى بغداد بعدما حاصر أنصار مقتدى الصدر مبنى مجلس القضاء العراقي، للتأكيد على ضرورة مواجهة التوقيع العتيد على الاتفاق.
بالأمس كتبنا عن “ديبلوماسية الهستيريا” في موضوع التفاوض الحاصل حالياً بين إيران والولايات المتحدة الأميركية بوساطة أوروبية، وبالفعل تلك الهستيريا تتأكد يوماً بعد يوم، لا بل ساعاتٍ بعد ساعات خصوصاً وأن الصراخ يتصاعد من كل حدبٍ وصوب : إسرائيل على لسان رئيس وزرائها يائير لابيد وفريقه تصرخ ضد الاتفاق وتعتبر نفسها بحل منه في حال التوقيع عليه، وبأنها غير معنية به واصفةً إياه بأسوأ اتفاق يفوق بسوئه اتفاق 2015 وتتوعّد بالقيام بكل ما يلزم لمنع إيران من امتلاك القدرات النووية، وفي الخليج غضب خصوصاً في الرياض، ما دفع وزير الطاقة السعودي الى الإعلان عن نية بتخفيض الإنتاج لرفع سعر البرميل قطعاً للطريق أمام إيران إن هي عادت الى السوق العالمي للنفط، ورسالة احتجاجية غاضبة للرئيس جو بايدن للدلالة على عدم رضى السعودية، أقوى دولة نفطية وأقدر دولة على إحداث تقلبات جذرية في التوازنات الإقليمية السياسية والنفطية ومجال الطاقة الجيو سياسي.
في واشنطن تناتش حول التوقيع على الاتفاق بين البيت الأبيض والكونغرس، فإدارة تريد التوقيع ولكن تخشى فضيحة في الكونغرس تُسقط الاتفاق في لحظة غير مناسبة يستبسل فيها الديمقراطيون لضمان الفوز في الانتخابات النصفية وفي انتخابات الرئاسة بعد عامين من خلال تجميع أكبر قدر من أوراق رابحة وانجازات في عهد بايدن، وصولاً حتى الى فتح ملفات الخصم الجمهوري الشرس دونالد ترامب ولو بصورة غير مألوفة مع رئيس سابق للبلاد ومرشح أساسي منافس، فتتباطأ واشنطن نتيجة كل هذه الحسابات والاعتبارات في الرد على مقترحات إيران الأخيرة وتعديلاتها، لتعود وترد على المقترحات عبر مناورة من شقين :
- الأولى: توجيه ضربة عسكرية أميركية في سوريا لمجموعات موالية لإيران للدلالة على أن واشنطن تفرّق بين الالتزام بالتصدي لأنشطة إيران الإرهابية في المنطقة كما حصل في اليومين الماضيين.
- الثانية: تقديم رد على ملاحظات ومقترحات إيران على مسوّدة الاتفاق النووي تبيّن من ردود الفعل عليه في الساعات القليلة الماضية أنها لم ترضِ الجانب الإيراني، وقد ذكر موقع بوليتيكو أن الرد الأميركي على إيران لم يكن على مستوى توقعاتها، ونقل عن مسؤول أميركي أن واشنطن تنتظر إما قبول طهران بالرد الأميركي أو مواصلة الضغط، وقد ركز الرد الأميركي على المقترحات الإيرانية على القضايا المتعلقة بالضمانات الاقتصادية وهو ما لم يرضِ طهران.
وقد أعلن البنتاغون في الساعات القليلة الماضية أن الضربات الجوية في سوريا تظهر التزام واشنطن بالتصدي لأنشطة إيران، في محاولة لإيهام الرأي العام الأميركي والجمهوريين أولهم بأن البيت الأبيض لا يتهاون مع إيران من أجل كسب ودها في الاتفاق النووي، فيما حقيقة الأمر أن الضربات التي يشنّها الجيش الأميركي في سوريا حالياً مدروسة ومضبوطة ولا تهدف الى إلحاق الأذى بقدر ما تسعى الى التعمية على ما تتهم به إدارة الرئيس بايدن إسرائيلياً وجمهورياً من تهاون وانبطاح غير مبرر تجاه إيران.
ولعل الدليل الأكبر على حقيقة المناورة الأميركية ما ذكرته بوليتيكو من أن مسوّدة الاتفاق تسمح لشركات أوروبية وغير أميركية بممارسة أعمال تجارية مع شركات تابعة للحرس الثوري، ما يعني تفريغ حكاية رفض شطب الحرس الثوري الإيراني عن لائحة الإرهاب من كل مضمون مفيد وهادف.
ويعلن البنتاغون في السياق نفسه أن الديبلوماسية النووية منفصلة عن الردع العسكري، في إشارة الى الغارات الجوية التي تنفذها واشنطن في شمال شرق سوريا، فيما داخل إيران تناتش حول الاتفاق قبولاً أو رفضاً بين وزارة الخارجية والحرس الثوري، ما اضطر مجلس تشخيص النظام الى التدخّل ووضع يده على مسوّدة الاتفاق الأوروبي المفترض أن يكون نهائياً فاذا به يعود الى دائرة التفاوض والأخذ والرد.
في هذه المرحلة من التغيّرات والتقلبات الحادة في التوازنات الدولية والإقليمية وإعادة خلط الأوراق كلها من أوكرانيا الى تايوان، يبدو أن إدارة الرئيس بايدن ترسي مرحلة صعبة من عدم الاستقرار الإقليمي في منطقة الشرق الاوسط كي لا نقول مرحلة توترات كبيرة وخطيرة، كما أنها ترسي اعترافاً أميركياً بدور أساسي للصين وروسيا في فيينا مع منصة٥+١ كمفعول عكسي لما تعلنه واشنطن وتضمره، وهي إن أرادت من خلال الاتفاق سحب إيران من مخالب الصين وروسيا، الا انها لا تستطيع أن تضمن لأحد أن لا تستفيد الصين وروسيا من تحرّر التجارة الإيرانية وتحرير تصدير النفط والغاز
الايرانيين اليهما متى رفعت عن طهران العقوبات.
فالرئيس بايدن يبدو أنه يحرق كل المراكب من أجل منع الجمهوريين من الفوز في الانتخابات النصفية ومنعهم من العودة الى البيت الأبيض في العام ٢٠٢٥، وذلك من خلال محاولات مراكمة الإنجازات تلوى الأخرى بأي ثمن كان، وعلى رأسها تحقيق أبرز وعوده الانتخابية للشعب الأميركي بالعودة الى الاتفاق النووي بعدما انخفض سعر برميل النفط، ويبدو أنه أخذ مجدداً في الارتفاع.
في الحقيقة ومهما أرادت إدارة بايدن تحقيق إنجازاتها
في الملف النووي الإيراني الا أن الأكيد أن واشنطن تخسر الخاسر حلفائها في الشرق الأوسط والمنطقة العربية والخليج بما فيها إسرائيل.
فتوقيع الاتفاق النووي تقوية ليس لإيران فحسب بل لبشار الأسد وللحوثيين في اليمن ولحزب الله في لبنان، وضرب لانتفاضة مقتدى الصدر في العراق على إيران، ما سيجر انطلاق مقاومة عكسية في المنطقة، وربما حرباً إسرائيلية- إيرانية بالواسطة عبر الوكلاء بحيث ستتشبث شعوب المنطقة بحقوقها وبالتحرر من الهيمنة الإيرانية، فيما ستسعى دول كتركيا والمملكة العربية السعودية والإمارات الى التسلح النووي، وستزداد التوترات في دول الطوق الإيراني ولا سيما لبنان وسيتهدد مجدداً أمن الأردن والضفة الغربية التي بإمكان الجيش الإسرائيلي
الإنسحاب منها كما انسحب من غزة عام ٢٠٠٥ وهكذا تعم الفوضى في المنطقة.
ومع شعور حلفاء واشنطن بالتخلي، ستعود التحالفات الإقليمية لتتكوّن ومعها نشأة جبهات مواجهة مع
إيران، ومن ضمنها عودة نتنياهو في إسرائيل الذي سيقوى شعبياً وسياسياً مع تقوية التطرف.
حتى العودة الى الحوار الإيراني- السعودي سيصبح أكثر كلفة لتحسن موقع إيران التفاوضي تجاه السعوديين.
أضرار جانبية لكن مهولة وأساسية وجذرية تنتظر المنطقة في حال توقيع الاتفاق، تلك الاضرار الجانبية التي سيتسبب بها الغرب بتوقيعه الاتفاق النووي خصوصاً في الشرق الأوسط بغياب أي ضمان أو أية مراعاة لحلفاء واشنطن، أولى الضحايا ما قد يؤدي الى تطورات دراماتيكية لن تسهل السيطرة عليها .