الخطوط الجيو سياسية المتشابكة والمشتبِكة في الشرق الأوسط

tlv_notes_2017_feb23_main_graphic

في نظرة معمّقة الى خريطة التحالفات والمنصات الإقليمية، نجد أن الشرق الأوسط من الناحية الجيو سياسية، وبعد فشل “الربيع العربي”، قائم على خطوط أربعة:

1 – خط أنظمة الدول الوطنية، ويشمل من الرأس روسيا والصين مرورا بالقسم الأكبر من الدول العربية والخليجية، وهذا الخط لا يؤمن بالثورات والديمقراطيات الشعبية أي بالتغيير من القاعدة بل بحكم مركزي من رأس الهرم الى قاعدته، وفقاً لتسلسل يدير المجتمعات والمؤسسات بمنطق الحصرية السلطوية.
والملاحظ في هذا السياق، أن الدول الوطنية تلك، وإن كانت منطلقاتها التأسيسية والفكرية مختلفة بين منطلقات دينية وأخرى عقائدية وأخرى اقتصادية، إلا أنها تلتقي وتتحالف وتتخادم من منطلق الحفاظ على نظام دولي مستقر وثابت يتهيّب التغيير والنزعات الليبرالية اليسارية الجامحة.
وهذا ما يفسّر مثلاً قرب تلك الأنظمة من بعضها البعض وإمكانيات التعاون الوثيق في ما بينها، خاصة بعدما تعرّضت لهزة مصيرية كادت تطيح ببنيانها وهيكليتها أيام الثورات الشعبية التي عرفت بالربيع العربي.
لذا من الطبيعي مثلاً أن نجد أنظمة عربية وخليجية أقرب الى روسيا والصين مما هي من الولايات المتحدة وأوروبا والغرب إجمالاً، ما ينعكس على موازين القوى وإعادة خلط الأوراق الإقليمية والدولية في العلاقات بين الدول، نظراً للتشابه في النظرة الى كيفية وآلية الحوكمة الصحيحة للبلاد.
فيُلاحظ بالتالي قرب الأنظمة التوتالتيارية والدكتاتورية أكثر من أنظمة الدول العربية والخليجية منها قربها من الغرب، وإن كانت منطلقات تلك الأنظمة المتقاربة متناقضة عقائدياً وفطرياً وإيمانياً، – إلا أن ما يجمعها في المصالح أنها تتشابه في رفضها التغيير والثورات الشعبية وحكم الديمقراطيات.
فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين على سبيل المثال، ولكرهه الإنتفاضات والثورات المزعزِعة لأنظمة مستقرة دولياً، تدخّل لصالح بشار الأسد ونظامه ضد الثوار والمنتفضين، فتلاقت مصلحة بوتين مع مصلحة أنظمة دول المنطقة بحيث نشأ بينها تناغم انعكس في اصطفاف قسمٍ كبيرٍ من الرأي العام العربي والإسلامي الى جانب روسيا في حرب أوكرانيا الأوروبية والغربية الموالية للناتو والأميركيين، مع أن هذا الراي العام نفسه يرفض احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية، ويتعاضد ويتضامن مع الشعب الفلسطيني الذي غزى الإسرائيلي أرضه، بما يبدو وكأنه الكيل بمكيالين، إلا أنه في الحقيقة تعبير مباشر وغرائزي الى حد ما بمفهوم اللاوعي الجماعي عن رفض النموذج الغربي الليبرالي اليساري النزعة، خاصة في هذا الزمن الذي تتحكّم فيه بالغرب أنظمة ليبرالية يسارية تقدّمية لا يقبلها العقل الشرقي.

2 – خط أنظمة الليبرالية اليسارية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا وبريطانيا وأستراليا وعدد من دول آسيا مثل اليابان وكوريا الجنوبية وفي المنطقة إسرائيل.
هذا الخط الذي يبدو في الظاهر أقرب الى المنطقة العربية تحالفياً وشراكة جيو سياسية هو في الواقع على نقيض تام معها، لأن في الديمقراطية الشعبية تقدمية تخالف مبادئ أديان المنطقة ومذاهبها ومعتقداتها وعاداتها، كما اليوم في موضوع حقوق الإنسان وحقوق المثليّين وسواها من مواضيع تشكل محظورات وممنوعات في الثقافة الشرق أوسطية من الخليج الى المحيط.
ولم تكن تلاوة الآية 13 من سورة الحجرات في افتتاح قمة جدّة في حضور الليبرالي الديمقراطي اليساري جو بايدن “يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٍۢ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْ ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ، ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ …” سوى لتذكير هذا الضيف الليبرالي بأن للمنطقة معتقدات وعقيدة لا تتلاءم، رغم التحالف والشراكة الاستراتيجية الممكنة، مع ما يطالب به الضيف من حريات متفلّتة وحقوق إنسان ومثليين.
هذا الخط من الدول، ومع أنه يضم دولاً وطنيةً في الهيكلة العامة لها، كما في الخط الأول أعلاه، إلا أن هيكلة هذه الدول الوطنية قائمة على مرتكزات فلسفية تحررية اعتنقت مفاهيم الديمقراطية والحريات الخاصة والعامة الى أقصى حدودها بعكس الدول الوطنية في التصنيف الأول أعلاه التي اعتنقت في هيكلتها إما مرتكزاً دينياً أو مذهبياً ( مثل الدول العربية) وإما مرتكزاً عقائدياً توتاليتارياً شمولياً و أُحادياً ( مثل االصين )، وأو مرتكزاً إمبراطورياً سلطوياً ( مثل روسيا )، لكن في النهاية تتعامل هذه الأنظمة مع بعضها البعض بنوع من الإطمئنان الى أن ما من نظام يسعى الى إقلاق الآخر أو التآمر عليه انطلاقاً من شبكة ضخمة من المصالح المتبادلة.

3 – الخط الثالث في المنطقة والذي يفاجئ الجميع بتركيبته المعقّدة والتي تنعكس حكماً على تحالفاتها المتناقضة، تمثله الجمهورية الإسلامية في إيران مع أذرعها المنتشرة في المنطقة.
هذا النموذج الثالث هو مزيج معقّد من دولة وطنية وثورة مستمرة ودائمة كالحنش برأسين، إلا أن الرأس الثوري هو الطاغي أقله الى الآن في حكم هذه الجمهورية وميليشياتها المحتلة لدول عربية مثل لبنان وسوريا واليمن والعراق.
ومن بين مظاهر التناقض والتعقيد في هذا النموذج الثالث أن الجمهورية الإسلامية دولة تيوقراطية أقرب ما تكون في نظامها الدولتي الى الدول الوطنية في المنطقة، لكنها في الوقت نفسه تُدار من ثورة خارجة عن أي “هيكلة دولتية”.
لذا ومن نتائج هذه الخاصية أن نجد إيران الإسلامية العقائدية الشيعية الصفوية أقرب الى الروس والصين بلغة المصالح مما هي قريبة من الدول العربية والإسلامية التي عادت تنظر الى الصين نظرة الكفر والإلحاد، لا بل تشكل طهران معها تحالفاً إقليمياً كبيراً.
في الوقت عينه، نجد أن إيران تخدم مصالح الولايات المتحدة الأميركية والغرب الليبرالي اليساري وإسرائيل عند تقاطع الأخوان المسلمين والتشيّع لضرب المشروع العربي وهزيمة أنظمة المنطقة العربية الدولتية الوطينة الثابتة، وتلتقي مع تركيا المنضوية في الناتو والشريكة معها في منصة سوتشي وأستانا، في تقوية الإخوان المسلمين لضرب النسيج العربي الإسلامي في المنطقة، في فترة الصراع التركي – العربي خلال الربيع العربي.
القمة الروسية – الإيرانية – التركية – التي ستنعقد اليوم الثلاثاء تعكس تعقيدات خطوط المنطقة، فالتقاء إيران وروسيا يصبّ في خانة التقاء العرب مع الروس، لكن في نفس الوقت فإيران خصم العرب وروسيا حليفة الطرفين الإيراني والعربي وتحديداً الخليجي، ما يعطي الرئيس بوتين دوراً متقدّماً في قيادة مصالح روسيا في المنطقة، خاصة في ظل الكباش الدولي الحالي انطلاقاً من أوكرانيا بينه وبين الغرب.
تركيا الرئيس رجب طيب اردوغان، وبعد تصالحها مع الخليج ومصر بَنتْ سياساتها في السنوات الأخيرة على دعم الإخوان المسلمين والحركات الإسلاموية في المنطقة، هي نفسها تركيا اليوم التي تدير بفعالية أزمة تصدير القمح الأوكراني من موانىء البحر الأسود بين الروس والأوكرانيين بتفويض ودعم غربي، وهي نفسها العضو في الناتو المعادي للرئيس بوتين في حربه في أوكرانيا، وهي نفسها أيضاً التي تجلس مع الرئيس بوتين في منصتي أستانا وسوتشي، واليوم الثلاثاء في لقاء القمة الثلاثية، لكنها دولة وطنية أقرب الى النموذج الليبرالي الديمقراطي ( ديمقراطية شعبية – حريات خاصة – مثلية – إنتشار للأندية الليلية …) مما هي من النموذج المحافظ للدول العربية على سبيل المثال.

4 – أما الخط الرابع، فهو خط التشابك القائم بين المصالح الغربية والمصالح الشرقية اذا صح التعبير، ويمر كله عبر المنطقة، وقد اختصر بيان قمة جدّة الأخيرة خير اختصار هذا الخط بالإشارة الى إدراك الولايات المتحدة للدور المركزي للمنطقة في ربط المحيطيَن الهندي والهادئ بأوروبا وأفريقيا والأميركيتين، وقد دشن الرئيس بايدن نظرية الربط الاستراتيجي للمصالح العابرة للقارات انطلاقاً من أرض الشرق الأوسط .

المنطقة عائمة على شبكة خطوط غير مرئية من التشابكات الإقليمية والدولية المصلحية، وهذا بالظبط ما عكسته قمة جدّة الأخيرة.

ومن هذه التشابكات تخرج المفاجآت وتتصادم الأحداث في مشهدية سوريالية تواكب الانقلاب الكامل للشرق الأوسط نحو مرحلة جديدة مختلفة جذرياً عما عُرفت به طوال أكثر من سبعين عاماً.

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: