ﻻ نفاجأ بالغضب الأميركي، الديمقراطي تحديداً من المملكة العربية السعودية إثر قرار أوبك بلاس بتخفيض الإنتاج إذ وراء الأكمة ما وراءها، ليس من الآن بل منذ عهد الرئيس السابق باراك أوباما وفلسفة الديمقراطيين في نظرتهم الى أنظمة الشرق الأوسط.
واشنطن الديمقراطية، وبخاصة إدارة الرئيس جو بايدن الحالية تضم عتاة المنظّرين بضرورة " دمقرطة " المنطقة العربية والخليجية، ودعم التيارات الليبرالية التحرّرية داخل المجتمعات العربية التقليدية للتوصل الى تغيير الأنظمة الدكتاتورية باتجاه أنظمة تحبها شعوبها وبالتالي تكون حليفةً لواشنطن.
لطالما عاش الديمقراطيون الأميركيون هذا الهاجس وأفضل مَن عبّر عن عمقه الرئيس أوباما نفسه في كتابه ( الأرض الموعودة ) حيث يتضمن كل فلسفة الديمقراطيين المعادية عقائدياً وفكرياً لمفهوم وكيانية الأنظمة العربية والخليجية بالتحديد. أوباما يقول في كتابه : " ... طوال نصف قرن على الأقل اكتفت السياسة الأميركية في الشرق الأوسط بالتركيز على المحافظة على اﻻستقرار والحؤول دون توقف إمداداتنا من النفط ومنع القوى المعادية ( السوفيات أوﻻً ثم الإيرانيين ) من توسيع نفوذهم. بعد هجمات ١١ سبتمبر باتت مكافحة الإرهاب أولويتنا ... تحالفنا مع أولئك الحكام الدكتاتوريين لأن لهذا النوع من القادة سلوكاً يمكن توقعه ولأنهم يميلون الى حفظ الأسرار، كما أنهم يستضيفون قواعدنا العسكرية وتعاونوا معنا في جهود مكافحة الإرهاب ... وأجهزتنا الأمنية في المنطقة تعتمد كثيراً على تعاونهم ... كانت ترِد الينا بين الحين والآخر تقارير من البنتاغون أو من وكالة اﻻستخبارات المركزية توصي بأن تولي سياسة الوﻻيات المتحدة اهتماماً أكبر بقضايا حقوق الإنسان والمبادىء الديمقراطية عند التعامل مع شركائنا في الشرق الأوسط، ثم يرسل الينا السعوديون معلومات تحول دون إدخال عبوة ناسفة الى طائرة شحن متجهة الى الوﻻيات المتحدة أو تتبيّن لنا الأهمية الكبرى لقاعدتنا البحرية في البحرين لتدارك أي صدام مع إيران في مضيق هرمز فيكون الإهمال مصير تلك التقارير ...نادراً ما وجّهت الوﻻيات المتحدة توبيخاً علنياً الى حلفاء مثل مصر أو المملكة العربية السعودية بسبب انتهاكاتهم لحقوق الإنسان، كانت همومنا بشأن العراق وتنظيم القاعدة وإيران، فضلاً عن احتياجات إسرائيل الأمنية تقودنا الى عدم المجازفة بعلاقاتنا ... ويتابع أوباما : ... كنت أعلم أن إدارتي لن تكون قادرة أبداً على تحويل الشرق الأوسط الى واحة للديمقراطية لكنني اعتقدتُ أنه بوسعنا، بل من واجبنا، بذل المزيد من الجهود لتتطور الأمور في هذا اﻻتجاه ".
هذا الكلام الذي كتبه الرئيس أوباما خير مثال على عمق الفلسفة الديمقراطية في تعاطيها مع دول الخليج والعالم العربي، وقد أسست هذه الفلسفة في دعم ما سمي بالربيع العربي تنفيذاً لنظرية تغيير الأنظمة الدكتاتورية " الحليفة " لواشنطن على مدى عقود.الرئيس جو بايدن الذي كان نائباً لأوباما تشرّب أيضاً هذا التوجّه ونمت عند الرجلين الرغبة في إحداث تغيير ما، فبدأت المحاولة مع أوباما لكنها فشلت فاذا بجو بايدن يحاول إحياءها في علاقته مع الخليج وبخاصة مع السعودية.أوبك بلاس ليست السعودية... بل عدداً من الدول ذات القرار السيادي داخل المنظمة ... أوبك بلاس ليست منظمة سياسية على غرار جامعة الدول العربية أو منظمة الأمم المتحدة أو أي تجمّع سياسي دولي أو إقليمي آخر، بل هي منظمة تقنية فنية تتعاطى تحديد سياسات النفط في العالم وضبطها وضبط أسعارها بما ﻻ يُلحق أية أضرار على الدول المنتجة والمصدرة.داخل المنظمة ثمة تصويت وثمة غالبية وأقلية وبالتالي أين السعودية من السيطرة على أوبك بلاس كي تتهمها اليوم واشنطن بالتآمر والخيانة لأن أوبك بلاس قررت تخفيض اﻻنتاج؟
الواضح أن غضب الأميركيين في واشنطن مرده الى عاملين :
الأول مباشر ويتمثّل في حاجة سياسية للرئيس بايدن بضرب اﻻقتصاد الروسي عبر تخفيض سعر برميل النفط الى أقل سعر ممكن لحرمان الرئيس بوتين من إيرادات نفطية عالية في سياق الحرب التي يشنّها على أوكرانيا،لكن هناك عامل آخر ﻻ يقل أهمية بالنسبة للرئيس بايدن نفسه وفريقه اﻻ وهو اﻻنتخابات النصفية التي ستجري في شهر تشرين الثاني المقبل، وهنا البيت القصيد، حيث أن ارتفاع أسعار النفط سيؤدي الى ارتفاع النقمة الشعبية على الإدارة الديمقراطية، ما سينعكس ﻻ محالة على حظوظ الفوز الديمقراطي في اﻻنتخابات لصالح الجمهوريين، الأمر الذي يهدد ما تبقى من وﻻية بايدن الذي سيصبح محكوماً بأغلبية مجلسية غير ديمقراطية فضلاً عن تأثير ذلك على استحقاق اﻻنتخابات الرئاسية المقبلة وحظوظ عودة الديمقراطيين الى السلطة.طبعاً يجب أن ﻻ يغيب عن بالنا أن الأنظمة العربية والخليجية التي تبادل الديمقراطيين الحذر، والى حد ما الحقد نتيجة وقوفهم الى جانب الربيع العربي وجحود الأميركيين للتضحيات و العلاقات التاريخية التي ربطت أنظمة الحكم العربية والخليجية بالولايات المتحدة الأميركية، وشعور حكام تلك الدول بأنهم طُعنوا من الحليف الأميركي اﻻستراتيجي , ﻻ ترى أبداً إدارة الرئيس بايدن بعين الرضى والثقة، وهي تعتبر وﻻيته استكماﻻً لوﻻية أوباما أو وﻻية أوباما ٢ كما يشير المحللون والمعلقون العرب والخليجيون.
هذه الأزمة النفسية المتبادلة ومُناخات عدم الثقة والتوجّس بين الخليجيين وﻻ سيما السعوديين من الحليف الأميركي حملت حكام هذه الدول الى اتخاذ قرار استراتيجي بالتوقف عن اﻻتكال واﻻعتماد على الأميركي طالما أن الديمقراطيين في السلطة في واشنطن. بعد فشل نتائج قمة بايدن _ بن سلمان خلال زيارة الرئيس الأميركي الشهيرة الى الرياض مؤخراً، تبلورت طبعاً أكثر فأكثر سياسة خليجية تقودها السعودية بمعاونة الإمارات وتقضي باﻻنفتاح على دول عظمى أخرى، ولما ﻻ الذهاب شرقاً باتجاه الصين وروسيا من أجل إقامة نوع من التوازن في القلق بين العرب والأميركيين بحيث يقلق أيضاً الأميركي من العرب وسياساتهم بنفس قلق العرب وعدم ثقتهم بالحليف الأميركي الديمقراطي.
في ظل كل هذه التشابكات، يأتي اليوم التوتر الأميركي- السعودي على خلفية قرار أوبك بلاس الأخير، ما يعني أن المسألة ليست "إبنة ساعتها" كما يُقال بل نتيجة تراكمات وحذر كبير متبادل بلغ حد فقدان الثقة بين الطرفين، لاسيما أن الرئيس بايدن بنهاية الأمر لم يقم بأي تحرّك جدي وبنّاء لإعادة ترميم الثقة بين إدارته والحكام الخليجيين.الوعود اﻻنتخابية النارية والعدائية التي أطلقها الرئيس بايدن أثناء حملته اﻻنتخابية الرئاسية واجهت حائطاً مسدوداً ﻻنه لم يستطع جعل المملكة بلداً منبوذاً، ولأن ملف حقوق الإنسان الذي تتذرع به إدارته لمواجهة ولي العهد محمد بن سلمان ليس أفضل سلاح بيد الأميركيين، وانتهاكات واشنطن في مجال حقوق الإنسان تكاد ﻻ تحصى خاصة في الشرق الأوسط من احتلال العراق الى أفغانستان الى الملف السوري وترك بشار الأسد والروس قتل الشعب السوري، وصوﻻً الى سجن أبو غريب وسواها من ملفات حارقة لواشنطن في مجال انتهاكات حقوق الإنسان.
قدوم بادين الى الرياض واجتماعه بولي العهد كسر كل الوعود اﻻنتخابية، الأمر الذي جعل إدارة بايدن مكشوفة تجاه الحليف الخليجي اﻻستراتيجي، ما يفسر الغضب الذي تشعر به واشنطن حالياً وتوجسها من الرياض وتشكيكها بها من خلال اتهامها بأنها وراء قرار أوبك بلاس لضرب إدارة بايدن الديمقراطية.إنه وجه جديد للصراع الذي نكاد نصفه بالعقائدي بين فكرتي حكم ونموذجي حكام، وبالتالي فإن الشرخ بين حلفاء استراتيجيين اذا استمر بالإتساع قد يطيح بكل الإنجازات التاريخية التي تحققت منذ قمة " كوينسي " والى اليوم. هذا الصراع يرتدي اليوم طابع أوبك بلاس الذي يريده البيت الأبيض ذريعة جديدة لمهاجمة المملكة والإمارات، وما يزيد من مأساة التوتر أننا أمام إدارة ديمقراطية عاجزة وفاشلة في رسم سياسة شرق أوسطية متوازنة تحفظ الحلفاء وتمنعهم من إدارة ظهرهم لواشنطن : فمن الانسحاب المخزي من أفغانستان الى اﻻنسحاب من العراق وتسليمه لإيران، الى إطلاق العنان للحوثيين في اليمن لضرب أمن واستقرار الخليج والمملكة وشطبهم من ﻻئحة الإرهاب، وصوﻻً الى سحب بطاريات الدفاع الصاروخي الأميركي المتطور بهدف انكشاف دول المنطقة أمام الخطر الإيراني، أعمال ﻻ يمكن لواشنطن أن تعتبرها بنّاءة وإيجابية تعبيراً عن صداقتها وحرصها على حلفاء المنطقة التاريخيين لها، وبالتالي ﻻ يجب عليها توقّع اهتمام خليجي بمصالحها وهي التي لم تهتم ﻻ بل ضربت في أكثر من محطة مصالح حلفائها الخليجيين والعرب وأهملتهم وﻻ تزال، فلماذا تغضب إن هم أهملوا مصالحها؟
ﻻ يمكن لواشنطن الديمقراطية التي ﻻ تقيم وزناً لحلفائها ومصالحهم ﻻ بل تتآمر عليهم في أكثر من ملف أن تدينهم، وﻻ يحق أن تحاول فرض أولوياتها على أجنداتهم.هذا باختصار نتيجة ما تلقاه واشنطن بايدن اليوم من نتائج سياساتها الخاطئة ... فالقصة قصة " قلوب مليانة " وإن كان قرار أوبك بلاس تقني في أساسه ومبرراته اﻻ أنه مما ﻻ شك فيه أن نتائجه السياسية رسالة واضحة للبيت الأبيض عساه يتلقفها باﻻتجاه الصحيح إن أرادت واشنطن الحفاظ على مصالحها مع الخليج والمنطقة العربية، بعيداً عن اﻻنفعاﻻت التي ﻻ تليق بهيبة ومصداقية دولة عظمى كالوﻻيات المتحدة الأميركية زعيمة العالم الحر وفق توصيف كتب التاريخ.