دشّنت عودة حماس الى سوريا مرحلة جديدة من المواجهة الإقليمية والدولية في سياق إعادة ترتيب أوراق محور المقاومة بتوجيهات مباشرة من القيادة الإيرانية، في ضوء ما تقتضيه أجندة إيران في هذه المرحلة المحفوفة بالضبابية والأخطار، سواء انطلاقاً مما يجري في الداخل الإيراني من تصعيد مستمر للشهر الثاني للاحتجاجات الشعبية أو ما يحصل في الخارج في ضوء تورط إيران المباشر في الحرب في أوكرانيا الى جانب روسيا، وما يجلبه لها ذلك من غضب غربي أميركي يطيح نهائياً بفرص العودة الى طاولة اﻻتفاق النووي أقله في المدى القصير والمتوسط.
عودة حماس الى بشار الأسد، معطوفة على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية في لبنان، وإعادة تشكّل السلطة في العراق وتمديد الهدنة في اليمن، يرسم مشهدية توجّه إيران في المنطقة الى "لملمة" عناصر قوتها للتمكّن من مواجهة الآتي من الأيام التي ستكون حافلة بالتحديات والمواجهات، خاصة في ظل ثلاثة تطورات على جانب كبير من الأهمية والخطورة :التطور الأول المتمثّل بتفاقم الخلافات داخل إسرائيل حول الموقف من روسيا في حربها على أوكرانيا، تلك الخلافات التي قسمت الطبقة السياسية الإسرائيلية الى فئتين: فئة مؤيدة لأوكرانيا وفئة مؤيدة لروسيا، بحيث لم يعد خافياً على أحد دعم حكومة يائير لبيد الليبرالية لأوكرانيا في سياق منسجم تماماً مع الدعم الأميركي الديمقراطي والدعم الأوروبي الليبرالي في ظل صعوبات بين الدول الأوروبية اليمينية المتطرفة في مجاراة زميلاتها الأوروبية الليبرالية ( التمايز مع المجر والسويد والتشيك على سبيل المثال)، وبحيث يُخشى، مع عودة بنيامين نتانياهو الى السلطة، أن يؤدي حكماً الى تبدّل موقف إسرائيل من دعم أوكرانيا الى دعم روسيا والرئيس بوتين.الانتخابات الإسرائيلية على الأبواب ونتائجها قد تُحدث تطوراً دراماتيكياً في السياق الإقليمي والدولي بنفس قوة التطور الدراماتيكي في الموقف الأميركي من الحرب في أوكرانيا، وبخاصة من مسألة متابعة إمداد أوكرانيا بالسلاح إن تمكّن الجمهوريون من السيطرة على الكونغرس في اﻻنتخابات النصفية القريبة.
التطور الثاني يتمثّل بتدهور العلاقات الروسية- الإسرائيلية على خلفية دعم إسرائيل لأوكرانيا، وقد وجّه نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي ديميتري ميدفيفدف تحذيراً لا بل تهديداً واضحاً الى القيادة الإسرائيلية الحالية بوجوب الإختيار بين روسيا وأوكرانيا، في ظل امتعاضٍ روسي من دعم تل أبيب لكييف وإمدادها بمعدات عسكرية، خاصة بعدما برزت دعوات في إسرائيل الى تسليح أوكرانيا لمواجهة التسليح الإيراني لروسيا، فيما موسكو تحذّر من أي تسليح إسرائيلي لأوكرانيا يعني تدمير العلاقات الثنائية نهائياً. ومن هنا السؤال الكبير : هل تعمد حكومة لبيد الحالية ومن أجل قطع الطريق أمام نتانياهو الصديق للروس الى التورط في الحرب الأوكرانية مباشرةً من خلال تسليح أوكرانيا كي يصعب بعد ذلك على نتانياهو إن عاد الى السلطة رأب الصدع مع موسكو، علماً أن هناك توتراً كبيراً حالياً بين موسكو وتل أبيب حول الضربات الجوية في سوريا، حيث تبدّلت الأولويات ومعها السياسات، وما كان يصلح قبل حرب أوكرانيا لم يعد يصلح بعدها، وبخاصة معادلة موسكو بإضعاف الوجود الإيراني في سوريا الذي بات اليوم لصالح موسكو، وإزاء التحالف الروسي- الإيراني في أوكرانيا والتسليح الإيراني للروس بالمسيّرات وربما ﻻحقاً بالصواريخ الباليستية ان تكون إيران قوية في المنطقة وبخاصة في سوريا، رابطة العقد بين العراق ولبنان والعمق اﻻستراتيجي لحزب الله، في حال حصول أية مواجهات أو حرب مع إسرائيل.
من هنا إعادة خلط أوراق المنطقة جارية على قدم وساق مع ما يستتبع ذلك من تشابكات سياسية تمتد من الخليج الى المتوسط واليكم بعضاً من أمثلتها: ان المملكة العربية السعودية الجمهورية النزعة ضد إدارة الوﻻيات المتحدة الديمقراطية التي تدعم كييف زيلنسكي والتي تبرّعت الرياض له بمساعدات بقيمة ٤٠٠ مليون دولار مع العلم أن لكلٍ من الموقفَين ما يبرره سعودياً.
عودة حماس الى سوريا تنذر بتبدّلات استراتيجية في سوريا أو سيكون محورها في سوريا، وقد تعود المواجهة الى قلب سوريا خاصة وأن إيران بحاجة الى تجميع قواها في مواجهة إسرائيل عندما تحين اللحظة، لكن هل تنجح طهران بالوصول الى هذا الحد من التعبئة وإعادة ترتيب تحالفاتها الإقليمية، هي التي يعاني نظامها من الترهل والضعف والوهن نتيجة الثورة الشعبية الحالية والتي تتهدد أركانه ؟التطور الثالث والمتمثّل بتبدّل اللهجة الغربية وبخاصة الأوروبية تجاه إيران بحيث أنه ليس خفياً على أحد أن الدعم الأوروبي الذي سُجّل سابقاً من أجل إبرام صفقة اﻻتفاق النووي مع طهران، والذي تجاوز أحياناً كثيرة بحماسته حماسة الأميركيين أنفسهم، نجده اليوم يتحول باتجاه فرض عقوبات على إيران، إن لقمع النظام للاحتجاجات بالقوة والدم وإن لتسليح طهران موسكو بالمسيّرات والتورّط المباشر في الحرب من خلال إرسال جنود تحت مسميات "خبراء عسكريين" لتدريب الروس على استخدام المسيّرات ... وهذا الموقف الأوروبي يعيد أيضاً خلط أوراق فيينا ويعاكس تماماً أي إمكانية للتفاهم مع الإيرانيين على ملفهم النووي، ما يعني اصطفافات جديدة بين أوروبا وإيران بعدما كانا تقريباً في وئام نسبي، وكانت أوروبا تسعى لإقناع الأميركيين بوجهات نظر إيرانية معينة أثناء المفاوضات في فيينا وحتى اللحظة الأخيرة.اليوم أوروبا تتهم إيران بانتهاك قرار مجلس الأمن رقم ٢٢٣١ الذي أُقر عام ٢٠١٥ إثر التوصّل في حينه للاتفاق النووي من خلال إرسال طهران لمدرّبين من الحرس الثوري الى شبه جزيرة القرم بغية مساعدة العسكريين الروس على استخدام المسيّرات الإيرانية، ما اعتبره الأوروبيون تدخلاً إيرانياً مباشراً في الحرب الى جانب روسيا ضد أوكرانيا المدعومة من اﻻتحاد الأوروبي والأميركيين.
في السابع عشر من الشهر الحالي، فرض اﻻتحاد الأوروبي على إيران عقوبات على شخصيات وهيئات إيرانية ضالعة في قمع اﻻحتجاجات المستمرة في مدن البلاد، واليوم ومنذ فترة وجيزة اتفقت كل من فرنسا وبريطانيا وأميركا على عرض خطة على الأمم المتحدة لوقف تزويد إيران لروسيا بالأسلحة إنفاذاً للقرار الأممي رقم ٢٢٣١.بالأمس اتفق اﻻتحاد الأوروبي على فرض عقوبات ضد إيران بسبب تزويدها روسيا لطائرات مسيّرة وهي تشمل الكيانات التي تورد طائرات مسيّرة إيرانية لضرب أوكرانيا، والإجراءات تلك تضمنت تجميد أصول ٣ أفراد وكيان واحد مسؤولين عن توريد الطائرات المسيّرة، وقد تمتد العقوبات الى ٤ كيانات إيرانية أخرى مدرجة بالفعل على قائمة العقوبات السابقة.موسكو بلسان وزارة خارجيتها سارعت الى الردّ على الأوروبيين بأن توفير الدعم العسكري وتدريب الجنود الأوكرانيين يجعلان اﻻتحاد الأوروبي طرفاً في الصراع، فمَن يتكلم بمنطق العقوبات ﻻ يكون قادراً على العودة الى تفاوض على النووي، خاصة وأن طهران وفي خلال كل الوقت الضائع باتت متقدّمة في برنامجها النووي بحيث ستصل دول المنطقة الى خيار بين إثنين : إما ضرب البرنامج النووي الإيراني والمهمة هنا تُسند الى إسرائيل بدعم استخباراتي ولوجستي إقليمي و أميركي، وإما انطلاق دول المنطقة وعلى رأسها المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية والبحرين نحو سباق تسلّح نووي لمواجهة النووي الإيراني.انطلاقاً من مجمل الصورة أعلاه، يمكن القول إن المحيط السوري مقبل على تطورات خطيرة مع تمتين التحالف الإيراني- الروسي وتهديد أمن إسرائيل ودول المنطقة وبخاصة الخليج (موجة التهديدات التي أطلقها منذ أيام قائد الحرس الثوري ضد الرياض) والأردن ومأسسة الوجود الإيراني في روسيا، في مقابل ترسيخ هذا الوجود في سوريا، وبالتالي دعم روسي لإيران في أوراقها الإقليمية من لبنان الى العراق، وإحباط روسيا لأي قرار أممي مناهض لإيران وبخاصة في موضوع القرار ٢٢٣١، ما سيعني لجوء الغرب الى البدائل اﻻستراتيجية وأهمها الحرب، وصولاً الى التضييق الروسي على إسرائيل الكامل لحد منع الضربات الجوية الإسرائيلية على سوريا.فهل ترضخ إسرائيل لبيد فيما تبقى له من وقت؟ وهل عودة حماس التي تريح الأتراك من عبء دعمهم في لحظة انفتاح أردوغان على إسرائيل، ما يفسر موافقة أنقرة على عودة حماس الى دمشق، أي عودة حماس الى الحضن الإيراني، أم سيأتي بنيامين نتانياهو بمعطى جديد أكثر تطرفاً إيرانياً ما يصعب عليه المواءمة بين مصالحه مع الروس وعدائه لإيران حليفة موسكو؟
المنطقة في محيط لبنان في حال تقلبات هستيرية والآتي قد يكون أعظم ... فهل يكون للبنان رئيس وحكومة لتحييده عن الأتون الملتهب على حدوده بالحد اﻻدنى الممكن أم أنه سيعمّق انزﻻقه نحو الهاوية على وقع سمفونية اﻻصطفاف المدمّر الى جانب المحور الإيراني، ما يعني تفكك لبنان وضياعه نهائياً؟