في ضوء ما تشهده المنطقة من تطورات متشعّبة وفي ظاهرها متناقضة، خصوصاً في ما يخصّ ما يحصل بين الولايات المتحدة الأميركية والجمهورية الإسلامية في إيران، يُطرح أكثر من سؤال حول تجلّيات المعادلة الأميركية- الإيرانية المتحكّمة بسياسات المنطقة على ضوء أوجه التوتّر والتعاون في آن التي تشهدها العلاقات بين واشنطن وطهران.
- توازنات القوى في العلاقات الدولية
بداية، دعونا نوضح أن في العلاقات الدولية "توازنات قوة" تجعل المواقف متغيّرة بين منطقة وأخرى وبلدٍ وإخر، فلا شيء يمنع على سبيل المثال أن تجد دولتَين متفقتين ومتعاونتين في ملف ومتصارعتين حتى الإبادة المتبادلة في ملف آخر.
انظروا مثلاً الى العلاقات الأميركية- الصينية التي تصل أحياناً الى حدّ المواجهة المباشرة المدمِّرة كما في ملف تايوان، في الوقت الذي تصرّح فيه واشنطن بأنها لا تريد كسر الاقتصاد الصيني، وبأنها تريد التعاون مع الصين في أكثر من مجال ثنائي.
هكذا هو حال المشهد في العلاقات الدولية، ومن هنا يجب النظر الى العلاقات الأميركية- الإيرانية، كما الأميركية- الخليجية وتحديداً السعودية بهذا المنطق.
- الجيش الأميركي لا يخضع لأوامر البيت الأبيض
بالعودة الى العلاقات الأميركية- الإيرانية، ثمة ثوابت لا بد من التوقف عندها قبل التطرّق الى حقيقة الموقف بين البلدين:
أولاً : يُخطىء مَن يظنّ في تناوله قضايا وأزمات العالم الجيو سياسية والاستراتيجية أن الجيش الأميركي يخضع لأوامر البيت الأبيض في علاقات واشنطن الدولية، وهذا خطأ شائع لا يرتكبه الا مَن يجهل حقيقة التركيبة السياسية والعسكرية الأميركية وحدود الصلاحيات والهرميات، ففي واشنطن دولة مديرة يتواصل معها العالم يومياً وقوامها البيت الأبيض والكونغرس والنظام القضائي الأميركي وأنظمة الولايات ودساتيرها، ودولة أخرى يمكن وصفها بالدولة العميقة والتي من أولوياتها المطلقة كيفية إبقاء أميركا مسيطرة على العالم وضامنة لمصالحها.
هذه الدولة العميقة هي التي تتحكّم بمفاصل الملفات والأزمات الدولية، وهي التي غالباً ما تنتهج أسلوب الحسم، فيما الإدارة المديرة تدير تلك الملفات والأزمات إدارة مَن ينتظر أو مَن يتقيّد بمصالح الدولة العميقة.
ثانياً : يجب النظر الى أمر الحشود العسكرية الأميركية الضخمة في المنطقة، والى سياسات البيت الأبيض الديمقراطي المتناقضة في الظاهر حيال إيران في وقت باتت الأخيرة تعيش حال قلق من الوجود الأميركي، إذ ترى الجيش الأميركي يجول بأرتاله وجنوده بكل حرية وأمان في العراق، فيما ميليشيات إيران انسحبت من الحدود العراقية- السورية بناءً لطلب واشنطن ومن دون أي مقاومة.
- الحكومة الأميركية العميقة وتجربة الكويت والعراق
ومن التجربة مع الكويت والعراق، يمكن الجزم أن المؤسسة العسكرية الأميركية تتحرّك بغضّ النظر عن موقف ومَن يحكم البيت الأبيض، فالحكومة العميقة في أميركا هي التي تدير علاقات أميركا الدولية.
وفي الوقت الذي يسمح فيه البيت الأبيض بعقد صفقة مع إيران لتبادل السجناء الأميركيين وتحرير أرصدة مالية لإيران كانت مجمّدة في كوريا الجنوبية، يستمر في المقابل الحشد العسكري الأميركي حول إيران وفي المجال الحيوي لعملياتها في المنطقة.
من هنا يمكن اعتبار أن المؤسسة العسكرية الأميركية مستقلة الى حد كبير عن سياسات وحسابات البيت الأبيض ومراكز القرار الأميركي المركزية، فيما يُقتصر الدور السياسي أمام السلطة العسكرية بتنفيذ أو بإقرار ما تحيله المؤسسة العسكرية لسلطة القرار السياسي.
تاريخياً، واجَه المؤسسة العسكرية الأميركية رئيس أميركي واحد هو جون كينيدي في حقبة أزمة الصواريخ الكوبية عندما شعرَ أن جنرالات الجيش يريدون المواجهة مع الاتحاد السوفياتي في كوبا، فعمدَ الى كبح جماحهم ووقف تدخّلاتهم، ومن بعدها كان مصير كينيدي الاغتيال.
أما الرئيس دونالد ترامب، فقد أعلن الانسحاب من سوريا مرتين، لكن الجيش الأميركي لم ينسحب وبقيت القوات الأميركية في سوريا حتى يومنا هذا، وعندما فشلت خطة تمركز القوات الأميركية في تركيا للخلاف على سعر إيجار القواعد مع السلطات التركية، انتقلت القوات الأميركية الى الكويت حيث تمت استضافتهم مجاناً. الجيش الأميركي بنى معسكرات شمال الكويت وقام بعمليات حتى قبل حصول الحرب مع العراق وقبل خطاب كولن باول في مجلس الأمن، فيما
إيران خائفة من الحشد الأميركي الضخم في المنطقة المحيطة بها .
- أصل زرع الثورة الإسلامية الإيرانية
تعود بنا الذاكرة هنا الى أصل زرع الثورة الإسلامية في إيران لزعزعة أمن واستقرار المنطقة من قبل الأميركيين والفرنسيين، حين أُرسل الخميني الى طهران لقلب نظام الشاه، وكان المطلوب من نظام الملالي والثورة الإيرانية أولاً وقبل أي شيء آخر إنهاء القضية الفلسطينية والصراع العربي- الإسرائيلي، ولم تعد القضية الفلسطينية هي الأساس في العالم العربي، كما أنهى نظام الخميني سلاح النفط وهو سلاح فتّاك ضد الغرب، بعد الذي ذاقوه من الأمير فيصل ومن السلطات السعودية عند استخدامها لهذا السلاح.
الخميني خاضَ حروبه لتبدأ بعدها صفقات الأسلحة لدى الدول المجاورة مثل دول الخليج من خلال مشتريات أسلحة وتكوين القوة العسكرية لمواجهة التهديد الإيراني للمنطقة، أما المخطط الغربي من خلال إيران فكان إغراق العرب والمنطقة بحروبٍ وفتنٍ ومشكلات تجعل دول المنطقة بحاجة ماسة للقوى الغربية الكبرى وفي مقدّمها الولايات المتحدة الأميركية،
وهذا ما تحقّق الى أن وصلت إيران الى نهاية مهمتها حالياً مع النهضة في السعودية والخليج وانتهاج الخليجيين سياسات غير تقليدية تجاه الأميركيين والغرب من منطلق الندّية مع القوى الكبرى فيما إيران وصلت على الحضيض.
- أولى تعثّرات إيران
إيران عرفت أولى تعثراتها الداخلية في الخلاف بين الخميني والشيخ حسين علي منتظري الذي عيّنه الخميني نائباً له ثم عزله وفرض عليه الإقامة الجبرية، ليصعد بعدها نجم كلٍ من علي مهدوي كني ومهدي كروبي حيث تنافسا بدورهما بحضور الخميني الذي اعتبرهما جناحا الثورة رغم أنهما كانا يكيدان لبعضهما.
اليساريون في إيران هم الذين سرّبوا لمجلة "الشراع" التي كان يملكها حسن صبرا معلومات صفقة شراء الأسلحة من إسرائيل خفيةً عن الخميني الذي علم لاحقاً، فتم عزل الخروبي من التيار اليساري وجيء برفسنجاني كوسطي الذي حاول تكوين طبقة سياسية جديدة وأطفأ الراديكاليين ثم استعاد اليسار عبر خاتمي والتحقوا بالإصلاحيين معه،
فكل هذه التقلبات كانت في جزء كبير منها نتاج نظام غير مستقر وغير متوازن .
- إيران تحاول تمكين نفسها إقليمياً
راهناً ومع المرشد علي خامنئي تحاول إيران تمكين نفسها كقوة إقليمية بالاستناد الى عقيدة تصدير الثورة في المنطقة وزعزعة المجتمع العربي وتحديداً السنّي، وقد
بظأ خامنئي يعدّ إبنه مجتبى لوراثة والده في المرشدية استكمالاً لخطة إعادة تشكيل السلطة العليا في إيران، لكن واشنطن لم تقل كلمتها بعد دعماً الوريث المحتمل باعتبار أن دور إيران في المنطقة لم يعد كما كان عند بدء الثورة .
- تغيير استراتيجي إقليمي ودولي انطلاقاً من مجمل هذه الملاحظات، يمكن التأكيد أن المعادلة الأميركية- الإيرانية في المنطقة عشية تغيير استراتيجي كبير ستكون له آثاره الإقليمية والدولية، وما الحشد العسكري الأميركي الضخم في المنطقة الا تهيئةً لما سيحدث من انتقال إقليمي من ضفة الى أخرى، ومن هنا التركيز الأميركي راهناً على إنهاء الوجود الإيراني في سوريا تمهيداً لاستعادة أوراقٍ من إيران بدأت تخسرها على أكثر من صعيد محلي وخارجي.