أما وقد اندلعت الحرب في إسرائيل وغزة، وصحّت معها الكثير من توقعاتنا حيال مصير المنطقة، لا سيما بعد تصريحات ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لشبكة فوكس نيوز، حيث أكد أن التطبيع مع إسرائيل يقترب يوماً بعد يوم، وحيث أدركت طهران منذ مدة عمق الخطر الذي يشكّله عليها هذا التطبيع لو تحقق، لذا جاءت الاستعدادات والتحضيرات العسكرية في غزة بدعم وتمويل إيرانيين كي يتم البدء بتنفيذ خطة تفشيل التطبيع وإسقاطه في لحظة محدّدة أو ما يصحّ قوله من خطة قلب الطاولة على السلام العربي- الإسرائيلي .
ما بعد ١٠/٦ ليس كما قبله
الأكيد أن ما قبل ٦/١٠ لن يكون كما بعده لأن الذي يحصل ليس تحريراً لفلسطين ولا قضاءً على إسرائيل، إنما الذي يحصل وسوف يحصل هو رسم معالم شرق أوسط جديد لن يكون فيه لنظام الملالي في طهران أي دور أو وجود، كما لن يكون له أوراق إقليمية ضاغطة كما في السابق.
الصمت العربي وخلفياته
الدور الإيراني المباشر في تهيئة الفصائل الفلسينية
نشير في هذا السياق الى ٣ مؤشرات معبّرة جداً عن حقيقة خلفيات ما يجري :
المؤشر الأول هو الصمت العربي شبه الكلي حيال ما يحصل، بحيث أن مَن يراقب المواقف المعلنة من الخليج الى شمال أفريقيا مروراً بالمنطقة، يلاحظ التوجه لدى الحكومات والمناشدات لوقف النار والوساطة من أجل تبادل الأسرى والمحتجزين، فيما لم نسمع موقفاً عربياً صارماً مقاوماً أو داعماً من هنا أو هناك، كما لم نشهد أية تظاهرات شعبية على امتداد الوطن العربي والخليجي تندّد على جري العادة بإسرائيل وعدوانها.
هذا المؤشر إن دلّ على شيء فعلى أمرين أساسيين : الأول الوعي الكبير الذي بلغته الدول العربية والخليجية وشعوبها إزاء القضية الفلسطينية، وكما سبق لنا وذكرنا أن العرب والخليجيين لم يعودوا يرون في ما يحصل في غزة استخداماً لحق مشروع بالمقاومة، بقدر ما بات يرمز الى استغلال واستخدام سياسي إيراني- إخواني للورقة الفلسطينية فقط من أجل تنفيذ أجندات إيرانية إقليمية، لا لتحرير الشعب الفلسطيني من الاحتلال، والدليل الى الآن هو أننا لم نشاهد، وبعد ستة أيام على بدء الحرب، أي تدخّل إيراني ميداني أو سياسي من أجل منع إسرائيل من إبادة الشعب الفلسطيني في غزة، فإيران و على لسان مرشدها على الخامنئي، أنكرت منذ اليوم الأول أي علاقة لها بما يجري في غزة، علماً أن القاصي والداني يعلم الدور المباشر لإيران في تهيئة الفصائل الفلسطينية المحسوبة عليها وإعدادها لمهاجمة إسرائيل وقطع الطريق أمام التطبيع وتمويلها وتسليحها.
الامر الثاني ان الرأي العام العربي المتعاطف حدًا مع القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني لم يعد يرى في فصائل غزة كما في حزب الله اللبناني كما في الحوثيين كما في الحشد الشعبي الا ادوات مؤامرة ايرانية واضحة المعالم ضد شعوب المنطقة باسماء وشعارات محقة لكن يراد توظيفها للباطل .
نتانياهو ومحاولة إنهاء الدور الغزاوي
انطلاقاً من هذه المعطيات، وبعدما كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو في حكوماته السابقة قد انتهج سياسة دعم وجود حماس في غزة والسلطة الفلسطينية في الضفة إمعاناً في شق الصف الفلسطيني وإفساحاً له في المجال أمام الانقسام الفلسطيني لتمرير صفقات الاستيطان من خلال بناء المستوطنات وتوسّعها، ها هو اليوم يتلمّس الطريق باتجاه إنهاء الدور الغزاوي لحماس وإنهاء كل مفاعيل أوسلو بالنسبة للسلطة الفلسطينية.
هل سيتغيّر وجه المنطقة؟
ما حصل في ٦/١٠ بمثابة ١١/٩ أسرائيلي بامتياز، فكما أدت أحداث أيلول الأميركية الى تغيير وجه المنطقة وتقوية العامل الإيراني والشيعي على حساب السنّي والعربي، اليوم وأمام ٦/١٠ إسرائيلي نحن عشية تغييرات جذرية في الإقليم وسقوط أنظمة وتقسيم دول ورسم خرائط وتوازنات جديدة.
أما الردّ الأميركي على ١١/٩، فقد أدى الى سقوط نظامين في المنطقة : العراقي مع سقوط الرئيس صدام حسين والأفغاني مع سقوط نظام طالبان، فيما الردّ الإسرائيلي الآتي من باب الانتقام الذي خُلقت ظروفه خدمةً لنتانياهو نفسه في مكان ما، سيؤدي الى تغيير أنظمة ورسم خرائط جيو سياسية جديدة في المنطقة تجرّ معها صيغ التقسيم والتفتيت وتعديل الحدود .
عوائق أمام التطبيع السعودي- الإسرائيلي وتغذية الأحقاد
ما يجب التذكير به أن المنطقة كانت قبل ٦/١٠ أمام مشروع سلام ضخم يهيىء الأرضية الأقليمية للتطبيع العربي- الخليجي- السعودي- الإسرائيلي نظراً للحاجة الجيو سياسية لهذا السلام، إذ إن كل المشاريع التنموية والتجارية والاستثمارية في المنطقة تتطلب انعقاد هذا السلام الذي بات خياراً استراتيجياً لا تكتيكاً سياسياً ضيقاً،
لذلك فإن ما يجري في غزة وما سوف يجري يعبّر بالدرجة الأولى عن قرار إيراني بشنّ الحرب عبر حماس على فرص التطبيع السعودي- الخليجي- الإسرائيلي في تقاطع مصلحي مؤقت مع اليمين الإسرائيلي المتطرّف الذي لم يكن بدوره متحمساً لهذا التطبيع الذي سيحقق قيام دولتين فلسطينية وإسرائيلية يقضي على فرص الاستيطان وعلى استمرار دولة إسرائيل العنصرية القوية.
وللتذكير بالممارسات التي قام بها اليمين المتطرّف في إسرائيل منذ أكثر من اسبوعين، وما جرى في بلدة الحوارة وجنين كلها تصرفات وارتكابات واستهدافات شكّلت عوائق كبيرة أمام السلام العربي- الإسرائيلي، لا بل السعودي- الإسرائيلي وغذّت الأحقاد الفلسطينية.
الانقلاب على قطار السلام
إيران لعبت ورقة حماس للانقلاب على قطار السلام السعودي- الإسرائيلي، وهي التي كانت إعتبرت على لسان مسؤوليها الكبار مؤخراً أن مَن يراهن على السلام فإنما يراهن على “حصان خاسر”، وقد إعتبر الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي أن السلام طعنة في ظهر المقاومة.
هذا الكلام المضاف الى كلام وزير خارجية إيران حسين أمير عبد اللهيان منذ أيام من أن التقارب مع السعودية يهدف في نهاية المطاف الى وقف مسار التطبيع مع إسرائيل، واستعداد إيران لأي مغامرة من أجل وقف هذا المسار، وقد فجّرت زلزال غزة فكان ما كان .
حكومة طوارىء واستراتيجية سلام
أمام إسرائيل تحديات كبيرة أهمها إسقاط نظام حماس في غزة، وبالتالي ضرورة اجتياح غزة ما يتطلّب قيادة أو حكومة غير تلك الموجودة حالياً لأنها متطرّفة ولا تساهم في حفظ أمن إسرائيل بقدر ما تساهم في إضعاف الصفوف الداخلية لشدة تطرّفها،
لذلك فإن الحاجة للسلام بين إسرائيل والسعودية والخليج والعرب تتطلب حكومة طوارىء إسرائيلية تستمر في السير باستراتيجية السلام، لكن بالتوازي مع إنهاء ظاهرة حماس في غزة، تمهيداً لإخراج “الفيروس الإيراني” من تسميم القضية الفلسطينية،
ويجب في هذا المجال أن لا يغيب عن بالنا أنه، في ظل التدمير الممنهج للهيكلية الفلسطينية في غزة وفي ظل ضعف السلطة الفلسطينية في الضفة، فإن تل أبيب تنهي إمكانية قيام دولتين لأن الدولة الفلسطينية تفتقد الى مَن يمثّلها ومَن يكون على مستوى قيادتها. ومن هنا، تعود السيناريوهات السابقة وأهمها إلحاق غزة بإدارة مصر و الضفة بالعرش الأردني الهاشمي للوصاية على الأراضي والمقدسات الإسلامية في القدس.
أي صيغة لأي حل يمكن أن ينهي النزاع؟
مسار التطبيع بين السعوديين والإسرائيليين كان يحمل معه صيغة حل للقضية الفلسطينية، أما الآن وقد أطاحوا بهذه الصيغة بدءاً من ٦/١٠ فيُطرح السؤال عن أي صيغة لأي حل يمكن أن تنهي النزاع، خصوصاً وأن العرب لم يعد بمقدورهم ربط أجنداتهم بأجندة فلسطين، وقد أدوا قسطهم للعلى ومسار التطبيع سيستمر، وهنا شجاعة القيادة العربية بالتمسك بالسلام.
الرئيس الأميركي من جهته كرّس مبدأ الترابط بين أمن إسرائيل وأمن الولايات المتحدة في مواجهة ما يعتبرها “داعش” الجديدة أي حماس، وكذلك فعل في تحذيره من مواجهة أي تدخل في الحرب لأي فريق آخر والمقصود إيران وحزب الله.
واشنطن حتى اللحظة تسعى لعدم كسر إيران لكنها هذه المرة لن تقبل بأن تنكسر إسرائيل، ومن هنا التحذير الأميركي المستمر من مغبة أي تدخّل خارجي في ما يجري في غزة، في وقت أكثر ما يشدّ الانتباه غياب التضامن بين الضفة وحماس من جهة، وبين فلسطينيي الداخل وحماس من جهة أخرى، ما يؤشر الى قرب انتهاء القضية الفلسطينية في مفهومها الجيو سياسي الإقليمي كإحدى أبرز وأهم نتائج زلزال ٦ تشرين الأول .