مهما اختلفت المقاربات والتحليلات والمواقف من حرب أوكرانيا، يبقى أن المبدأ العام الواجب الوقوف عنده في هذا الملف قاعدة قانونية عامة مفادها : حق الدول بسيادتها ووحدة أراضيها واستقلالها، وهذه القاعدة المعطوفة على قاعدة قانونية أخرى مفادها حق الشعوب في تقرير مصيرها، تشيدان معاً الموقف السياسي والاستراتيجي مما يجري في أوكرانيا.
لا يمكن أن يُعاب على شعب يتعرّض للاحتلال والغزو أنه يقاوم ويقاتل المحتل، كانئاً من كان هذا المحتل ومهما كانت دوافعه، فالجيش الروسي في أوكرانيا المعترَف بها دولياً وقانونياً دولة ذات سيادة ولها حرمة أراضيها، وليس الجيش الأوكراني هو مَن يغزو الأراضي الروسية ليحتلها.
هذه الحقيقة الميدانية والسياسية والعسكرية لا تحتاج الى نقاش بقدر ما تحتاج الى مبرّرات ودوافع موسكو من غزوها ولتفنيد ودحض: الرئيس فلاديمير بوتين الذي تذرّع بقرب الناتو من حدوده قرّب بغزوه أوكرانيا الناتو أكثر فأكثر من حدوده بعد شهر شباط الماضي، وهو أي بوتين راهن على انقسام أوروبا بين مؤيد ومعارض لغزوه، وقد وحّد بذلك الأوروبيين رغم الاختلافات والخلافات التفصيلية، والرئيس بوتين الذي راهن على عدم قدرة أوروبا الاستغناء عن غازه ونفطه دفع بهذه الأخيرة الى التخلّي، اعتباراً من العام المقبل، عن نفطه وغازه بنسبة فاقت 80%، والرئيس بوتين الذي أراد منذ الأيام الأولى والأسابيع الأولى احتلال كييف لإسقاط الرئيس فولوديمير زيلنسكي، ها هو يدخل اليوم 301 على غزوه وكييف لا تزال حرة سيدة في قراراتها، ورئيسها يغادر لأول مرة العاصمة والأراضي الأوكرانية في زيارة دولة الى الولايات المتحدة رغم كل المخاطر المحدِقة بشخصه وأمنه ونظامه، والرئيس بوتين الذي راهن على ضعف الناتو الذي قيل عنه يوماً أنه في حال موتٍ سريري أحياه قوةً وعزماً غزوه أوكرانيا … ولائحة النتائج العكسية تطول لإثبات فشل الرئيس بوتين سياسياً واستراتيجياً في تحقيق ما أراده، وقد بدأت عمليته المحدودة تتحوّل منذ بضعة أشهر الى حرب استنزاف وحرب شاملة يوماً بعد يوم الى حد ما تضمنه خطابه بالأمس من إعلان تقوية عديد الجيش الروسي وتهديداته المبطّنة بترسانته النووية ونظام صواريخه البالستية، وإعلانه الاستمرار في المواجهة حتى تحقيق أهدافه، فيما جاء الرد من واشنطن في خلال القمة بين الرئيسين بايدن وزيلينسكي بمضاعفة الدعم العسكري النوعي لأوكرانيا الى حين تحقيق الأهداف الأوكرانية والغربية المعاكسة لأهداف الرئيس بوتين.
نتجه يوماً بعد يوم نحو المزيد من المعارك والمواجهات حيث آفاق التسوية مسدودة وإمكانيات الحوار مغلقة أقله في المدى القصير ( أسابيع أوبضعة أشهر ) لاسيما وأن مفهوم الحوار نفسه محط اختلافات جذرية بين موسكو وكييف، فأي حوار يمكن أن تقبل به كييف اذا تضمن إجبارها على التنازل عن قسم من أراضيها ؟ وأي حوار يمكن أن تقبل به موسكو إن تضمن إجبارها على التراجع عن المناطق التي احتلتها سواء في العام 2014، ونعني شبه جزيرة القرم، أو في العام 2022 شرقي الدونباس على الحدود الأوكرانية- الروسية، خاصة بعد القرار الفولكلوري بضم بعض المقاطعات الى روسيا الإتحادية والقسم الأكبر منها لا يزال تحت نيران الأوكرانيين الذين أعادوا السيطرة على أجزاء من تلك المقاطعات.
زيارة الرئيس فولوديمير زيلنسكي الى الولايات المتحدة الأميركية أظهرت الحقائق الآتية :
أولاً : في أنها عكست أكثر من تطورٍ قد يخلط أوراق الحرب ويؤثر مباشرة على مجمل الأوضاع الدولية ويغيّر في موازين القوى الإقليمية والدولية المتحالفة والمتصارعة، فما هو واضح أن الملف الأوكراني قسّم العالم الى محورين أساسيين بينهما محور ثالث: المحور الأول هو محور العالم الحر الليبرالي الديمقراطي بزعامة الولايات المتحدة الأميركية والمتحالف مع الحكومة الأوكرانية والداعم لمقاومة كييف ضد الاحتلال الروسي، ومحور روسيا - إيران، ولن نقول الصين التي تميّزت مؤخراً خلال القمم الخليجية - الصينية بمواقف لا تصبّ في مصلحة التحالف الصيني - الروسي الذي كان متوقّعاً، والمحور الثالث هو محور الدول التي من ضمنها الصين، ودول هذا المحور بكل بساطة لا تريد حروباً ولا تريد انجرار العالم الى مهالك الحروب لأن أجنداتها إنمائية تنموية تجارية تبادلية إستثمارية إقتصادية مالية، وتسعى لبناء شبكات شراكة وتعاون مع الغرب وأهم تلك الدول الصين والهند.
ثانياً : الكونغرس الديمقراطي الحالي يسارع الوقت لمنح أوكرانيا أقصى المساعدات العسكرية والمالية الممكنة قبل بداية شهر كانون الثاني حيث تبدأ ولاية مجلس النواب الجمهوري الجديد وحيث قسم من الجمهوريين يريد إيقاف منح كييف شيكات على بياض، وفي هذا الإطار يمكن القول إن من بين أبرز نتائج حرب بوتين على أوكرانيا أنها أعادت الولايات المتحدة على الساحة الدولية كقوة عظمى حامية للديمقراطيات والدول المستضعَفة، وهو أي بوتين، أراد استعادة أمجاد ندّية الإتحاد السوفياتي السابق مع الأميركيين، فإذا بهذه المحاولة تقوي مجدداً من دور واشنطن وقوتها وسيطرتها على ملفات العالم وتصحّح لا بل تكاد تنسي الرأي العام هفوات ضعف الديمقراطيين في بدايات عهد الرئيس جو بايدن، وأهمها الانسحاب المريع من أفغانستان وسقطات البيت الأبيض وساكنه في أكثر من محطة محلية إقليمية ودولية، حيث ينبري اليوم جو بايدن كروزفلت في العام 1941 حين استقبل رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل الذي كانت عاصمته ترزح تحت النار والحديد النازي مهدّدةً بسقوط إمبرطورية بريطانيا العظمى في خلال الحرب العالمية الثانية. روزفلت وتشرشل كأنهما بُعثا أحياء مجدداً ليعيدا معاً التاريخ وصياغة الانتصار على النازية أي نظام الرئيس فلاديمير بوتين.
الندّية التي أراد الرئيس بوتين استعادتها من أيام الاتحاد السوفياتي تجاه الولايات المتحدة انقلبت عليه مجدداً فبات معزولاً، وها هو في الوقت الذي يدّعي فيه تحقيق أهدافه في أوكرانيا، يغادر الرئيس الاوكراني بلده في زيارة دولة الى واشنطن، وتحقق زيارته نجاحاً باهراً بحسب تقارير الساعات القليلة الماضية.
ثالثاً : إقرار واشنطن رزمة مساعدات جديدة بقيمة 45 مليار دولار ستُعرض للموافقة على الكونغرس الذي نجح الرئيس زيلنسكي بالأمس في كسب وده وتأييده ودعمه من خلال خطابه الى أعضاء الكونغرس، جمهوريين وديمقراطيين، والذي كان له الأثر البالغ في اقتناع ممثلي الأمة الأميركية من الحزبَين بضرورة استمرار دعم كييف تمهيداً للإعداد لطاولة حوار بعد تحقيق الأوكرانيين انتصاراً أساسياً في المواجهة الميدانية، وتزويد أوكرانيا بنظام بطاريات باتريوت الذي يعني في ما يعنيه تضييق الخناق حول أية محاولات روسية لاستباحة السماء الأوكرانية بعد اليوم، سواء بالصواريخ أو بالمقاتلات الحربية.
الجمهوريون لا يزالون منقسمين طبعاً حيال استمرار دعم أميركا لأوكرانيا، لكن البعض منهم مع استمرار الدعم وهم يُضافون الى الديمقراطيين، وسوف يظهر ذلك في التصويت خلال ساعات على رزمة المساعدات الجديدة.
رابعاً : الرئيس بوتين في خطابه الأخير بالأمس كما في كل مناسبة، تكلم عن المواجهة مع الناتو أكثر مما تكلم عن الحرب في أوكرانيا، وبوتين لا يفقه شيئاً من القوة العسكرية، مكتفياً بإطلاق الشعارات والتهديد بترسانة كصاروخ "سرمات" وسواها فيما جيشه يضعف في الحرب الأوكرانية، وما خروج زيلينسكي من أوكرانيا باتجاه واشنطن لأول مرة سوى دليل على ارتفاع حدة التحدّي المتبادَل بين واشنطن وموسكو ( تحدي المخاطر الأمنية ضد الرئيس الأوكراني ) وعلى مدى ضعف الحصار الروسي على الرئيس الأوكراني.
اذاً الحرب ستطول وكل طرف مصمم على استكمال المواجهة حتى النهاية ومليار و800 ألف دولار مساعدات جديدة لكييف أُقرت، فيما الرئيس بوتين فشل في تحقيق أهدافه المعلَنة من الناتو، الى إبعاد الأميركيين عن حدوده، الى انقسام الأوروبيين، الى ضعف ألمانيا نتيجة حاجتها للطاقة … كلها أهداف باءت بالفشل، فيما السخاء الأميركي مع أوكرانيا دليل واضح على تحوّل الحرب رويداً رويداً الى مواجهة عالمية وأن هذه الخرب ستستغرق الحرب وقتاً إضافياً، فيما بايدن يقول لبوتين : "لن تربح هذه الحرب مهما كان عنادك" … فلا سلام ممكن قبل تحقيق الأوكرانيين انتصاراً حاسماً.