كتب نايف عازار في نداء الوطن:
عاد الجنوب السوري إلى دائرة الضوء مجددًا من زاوية الزيارة التي قادت رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ووزيري خارجيته جدعون ساعر ودفاعه يسرائيل كاتس وكبار قادته العسكريين، إلى ما تعتبرها الدولة العبرية "المنطقة العازلة" داخل الأراضي السورية، والتي باتت مكانًا مستباحًا للجيش الإسرائيلي، يسرح فيه ويمرح منذ سقوط نظام الأسد الفار في 8 كانون الأول عام 2024.
أعقبت زيارة "بيبي" توغلات لدبابات إسرائيلية وسيارات عسكرية في مناطق عدة في ريف القنيطرة الجنوبي، تخلّلها رفع العلم الإسرائيلي فوق إحدى القمم الجنوبية السورية، وهي خطوات تزدحم بالرسائل السياسية والجيوسياسية الموجهة إلى الداخل والخارج والدول المحيطة في آن.
في التوقيت، جاءت زيارة نتنياهو إلى الجنوب السوري بعد فترة قصيرة من زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى واشنطن، ولقائه قاطن البيت الأبيض، وهو أمر تعدّه تل أبيب تطورًا استراتيجيًا مقلقًا، في ظلّ تباطؤ قطار الاتفاق الأمني الموعود بين الدولة السورية الوليدة والدولة اليهودية. فصناع القرار في الدولة العبرية باتوا يتوجّسون من التبدّلات التي تطرأ على أولويات الإدارة الأميركية، التي قد تتعدّى أولويات إسرائيل في سوريا ولبنان وغزة وإيران، في ظلّ سعي قائد "العالم الحرّ" و"رجل الصفقات" إلى تحقيق إنجازات جديدة وتعزيز شراكات بلاده الاقتصادية والاستراتيجية مع دول الخليج، خصوصًا السعودية التي برزت كحليف استراتيجي مفضل لترامب من خارج حلف "الناتو"، فضلًا عن تركيا التي تعدّ قوة إقليمية مركزية في الحلف، وهو الذي يجهد لتثبيت هيمنة بلاده الكونية، ومقارعة النفوذ الصيني وجبروته الاقتصادي المثير للقلق الأميركي.
"عراضة" نتنياهو العسكرية في الجنوب السوري برفقة قادته الأمنيين، تندرج إذًا في إطار محاولة خلط الأوراق الأميركية، بغية إبقاء الأولويات الإسرائيلية في رأس سُلّم حسابات قائد سفينة "العمّ سام"، خصوصًا أن نتنياهو تعمّد إطلاق تهديدات من أرض الجنوب السوري، مفادها أن الحرب متعدّدة الجبهات التي تشنها بلاده لم تنتهِ بعد، وأن جيشه قادر أن يضرب في أي مكان، وقد أدرج المراقبون هذه التهديدات في خانة توظيف التصعيد كأداة سياسية أكثر من كونه توجهًا عملياتيًا.
لا ريب في أن إطلالة "بيبي" من الجنوب السوري رمت إلى إظهار عزم بلاده على ترسيخ وجود عسكري مستدام في المناطق التي دخلها الجيش الإسرائيلي بعد سقوط نظام الأسد، والإيحاء بأن أي اتفاق أمني مع دمشق، لن يُخرِج القوات الإسرائيلية من تلك المناطق بشكل كامل، بل إن تل أبيب ترنو إلى الاحتفاظ ببعض النقاط الاستراتيجية الثابتة في المدى المنظور لأهميتها العسكرية من جهة، ولاستخدامها من جهة أخرى كأوراق سياسية رابحة في أي مفاوضات "تطبيعية" مع دمشق في المستقبل.
أراد رأس الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرّفة كذلك، إظهار تصميم بلاده على ترسيخ وجودها العسكري على المسرح الجنوبي السوري، بذريعة حماية الأقلية الدرزية المهدّدة من جانب فصائل "الجولاني السابق"، خصوصًا أن الجمر الطائفي لا يزال تحت رماد محافظة السويداء، التي عانت ولا تزال من تجاوزات وارتكابات القوات السورية النظامية، في ظلّ تغريدها خارج سرب الدولة السورية المركزية، واستنجاد أبنائها بالحماية الإسرائيلية، منعًا للاستفراد بهم في أي اشتباكات طائفية جديدة.
الحضور العسكري الإسرائيلي في الجنوب السوري يتعدّى بأبعاده "الغِيرة الجيّاشة" التي تبديها تل أبيب حيال دروز سوريا. فالهاجس الأبرز الذي يقض مضاجع الإسرائيليين، هو تكرار سيناريو هجمات 7 أكتوبر المرعب من أي حدود أخرى. وهنا يبقى همّ الدولة العبرية الأوّل إبعاد شبح المقاتلين السنة المنضوين تحت لواء الجيش السوري من الجنوب السوري، والإبقاء على شريط أمني عازل يقي حدودها الشمالية من أي هجمات مباغتة، شبيهة بعملية "طوفان الأقصى"، التي أعادت إلى الوجدان الجماعي اليهودي شبح "الهولوكوست".
لذلك تندرج زيارة نتنياهو في إطار ما يُعرف إسرائيليًا بـ "عقيدة الجنوب النشط"، التي تكرّس على أرض الواقع مبدأ الأمن الاستباقي والوقائي بدل الدفاعي، والذي بات يتحكّم بالعقل العسكري الإسرائيلي بعد هجمات 7 أكتوبر، بمعنى أن الدولة اليهودية لن تسمح بتشكّل أي تهديد على حدودها، خصوصًا الشمالية منها، بل ستتعامل معه في عمق الجنوب السوري، حمايةً لأمنها القومي.
يجب عدم إغفال أيضًا العامل الداخلي الإسرائيلي الذي يدفع "بيبي" في كلّ مرة يشعر فيها بمرارة سياسية، إلى تسجيل "بطولات" ميدانية وإعلامية، تخاطب الشارع الإسرائيلي، على وقع أزمة داخلية حادة، معطوفة على ملفات قضائية مفتوحة على مصراعيها بتهم فساد، جعلت نتنياهو ضيفًا شبه دائم في المحاكم الإسرائيلية.