من الواضح والجلي أن "قمة العشرين" الأخيرة التي عُقدت في بالي الأندونيسية كانت قمة معالجة هاجس الخوف من حرب نووية عالمية،فالدول العشرين الأقوى اقتصادياً وسياسياً أرادت خلال هذه القمة إيجاد الأساليب المناسبة للعمل على تضييق رقعة الحرب في أوكرانيا وتأثيراتها العالمية.ليس من السهل أن ينصبّ اهتمام 20 دولةً تمثّل ثلثي اقتصاد العالم على موضوع غير مالي وغير اقتصادي في سابقة لم تسجل في تاريخ انعقاد مثل هذه القمة، فالظرف خطير والأمر جلل ولا مجال للتلاعب بمصائر الشعوب والدول إذا انحرفت الحرب في أوكرانيا عن مسارها لتورّط العالم في ما لا تُحمد عقباه من أزمات وصراعات مدمّرة.من هنا، فإن قمة العشرين الأخيرة كانت بامتياز قمة الحد من خطر نشوب حرب عالمية ثالثة تكون نووية، وقد نجحت في تحقيق خروقات أساسية انعكست على باقي ملفات الصراع في المنطقة والعالم.
قمة العشرون التي تشكّل مجتمعةً قاطرة العالم اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً يمكن وصفها بأنها أهم اللقاءات والتجمّعات العالمية، وهي تفوق بأهميتها الأمم المتحدة وأجهزتها لأن الدول العشرين بكل بساطة هي التي تقود العالم وهي التي تقدر أن تحل مشاكله أو أن تصعّدها وتعقّدها وتوتّرها.من هنا، يمكن تسجيل الملاحظات التالية على قمة العشرين وما صدر عنها وفق الآتي :
أولاً : أجمع بيان القمة الختامي على إدانة الحرب في أوكرانيا والمطالبة بوقفها وبرفض الاعتداء على سيادة الدول، ما يعني إدانةً لروسيا التي هي مَن هاجمت بلداً مستقلاً وسيداً على حدودها، وقد جاءت الإدانة بصورة مباشرة وغير مباشرة، الأمر الذي فسّر إحجام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن المشاركة في القمة، وهو الذي اعتاد سابقاً على المشاركة ربما لتجنب الإحراج هذه المرة، لاسيما وأنه لو حضر لكان سيواجه أسئلة ومواقف من الدول الأعضاء من غير النوع الذي يرضيه.وقد تمكن وزير خارجيته سيرغي لافروف من امتصاص الحد الأدنى من الإحراج رغم صعوبة مهمته، وهو الذي لم يُفلح في إقناع الدول العشرين بصوابية غزو روسيا لأوكرانيا.وللتذكير في القمة ما قبل الأخيرة في تموز الماضي، كان وزير الخارجية لافروف قد انسحب من القمة احتجاجاً على الموقف الدولي من الحرب في أوكرانيا.وقد استنكر بيان القمة الختامي متهماً الدول الغربية بتسييس أعمالها وأهدافها للدلالة على العزلة الدولية الغربية التي أوقعت موسكو نفسها فيها.
ثانياً : كان واضحاً تركيز الدول المشاركة في قمة العشرين على منع توسّع الحرب في أوكرانيا وإبقاءها ضمن السياق المحدود بين البلدين المتخاصمين، منعاً للتسبّب بأزمة حبوب عالمية والتأثير على مشروع الغذاء الدولي وخلق الأجواء المناسبة لاستمرار تصدير الحبوب من روسيا وأوكرانيا الى الدول كافة.خامساً : "قمة العشرين" التي شهدت لقاءً تاريخياً بين ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والرئيس التركي رجب طيب اردوغان، رسمت استراتيجية جديدة لمحاصرة إيران، إذ من المتعارف عليه أن أي اتفاق تركي - عربي يحاصر إيران ويقضي على نفوذها في المنطقة.وما يزيد من احتمالية اتفاق بين العرب والأتراك ضد إيران الحديث الأخير للرئيس الاذربيجاني الذي أوحى بوجود قرار من الدول السبع التركية بتشجيع انسلاخ الشعوب التركية في الدول المجاورة للدول التركية عن دولها للانضمام الى دولها التركمانية الأصلية.هذا الكلام الذي يستهدف إيران التي تضم أقلية اذرية، وروسيا التي تضم جمهورياتها شعوباً تركمانية قد تكون المسبّب الأول لتحالفهما الحالي في أوكرانيا.
ثالثاً : أولوية القمة بعد إنهاء الحرب في أوكرانيا كانت تكمن في استعادة العالم لعافيته الاقتصادية، خاصة بعد أكثر من عامين على صعوبات وكوارث تلقّفها العالم من جراء جائحة كوفيد 19 وتداعيات هذه الجائحة التي مسّت بكل اقتصاديات العالم وأخّرت الدول عن مسارها التقدمي وعن مسيرة التطور والنمو، ولذلك ظهر الفرق الشاسع بين طموحات الدول المشاركة وطموحات روسيا التي ابتعدت منذ أشهر عن العالم وخاصمته واعتزلت التعاون معه انطلاقاً من نظرة عقائدية جامدة متهالكة لا تجد مكاناً لها في القرن الحالي والعصر الحالي والظروف الحالية، فروسيا ليست محكومة بقيم بل بعقائد ونظرة عقائدية، ومن أجل استمرارها لا بأس من التضحية بالقيم الإنسانية والحريات.النظرة الاستراتيجية للأمور في روسيا تفتقد الى البعد الإنساني والاجتماعي لأنها لا ترى إلا القساوة والعنف والتضحيات من أجل نصرة فكرة أو عقيدة أو تفسير مغلوط لحقائق التاريخ ومعطيات الجغرافيا، ولذلك نجد الشعب الروسي يعاني من الفقر والأزمات الاقتصادية والإجتماعية فيما القيادة الروسية في مكان آخر من اهتماماتها.الأطماع الأيديولوجية هي التي تحكم في الكرملين أكثر من السياسات التنموية والنهضوية للاقتصاد والأوضاع الاجتماعية للمواطنين الروس،فحلف الناتو لم يكن ليقبل بدخول أوكرانيا اليه ومع ذلك اعتبر الرئيس بوتين أن المسألة مسألة وقت، ما حمله على اتخاذ قرار الغزو والاجتياح لأوكرانيا فيما الحقيقة في مكان آخر مختلف، ما أدى الى تورّط روسي في أوكرانيا.هذا التورط يجب أن يحمل بوتين على البحث عن مخرج للحرب العبثية في أوكرانيا يقلل من خسائرها، سواء عبر الحوار أو عبر الإقرار بخطأ اجتياحه أوكرانيا، خاصة وأن اقتصاده ورغم المكابرة الدعائية بأنه لا زال قوياً إنما يسجّل تراجعات دراماتيكة وانهيارات في العديد من القطاعات المنتجة بحيث أن موسكو لا تستطيع الاستمرار على هذه الحال من الانهيار.وقد زاد على المشهدية الروسية دراميةً مشهد الآف الشبان الروس الذين يهربون من بلادهم رفضاً للتجنيد الإلزامي في صفوف الجيش، ورفضاً للقتال ضد الأوكرانيين، ما شكّل بالنسبة للرئيس بوتين صفعة دعائية وسياسية أطاحت بصورته وهيبته ومصداقية قراراته.
موسكو تجرّ وراءها في الآونة الأخيرة ذيول الخيبة، وقد كان انسحابها من خرسون المنضوية حديثاً وبقرار إحتفالي من الرئيس بوتين الى بوطقة أراضي الاتحاد الروسي بمثابة نقطة تحوّل في مسار الحرب ومؤشرٍ على الانتقال الى مرحلة جديدة ضعف فيها الروسي ولم يعد بإمكانه التقدّم أكثر على الأرض، كل هذا أدى ويؤدي الى حديث روسي عن استعداد للتفاوض والجلوس على طاولة التفاوض من دون شروط، فيما الجانب الأوكراني ومن ورائه الغربي يضع على الروس شروطاً للجلوس الى طاولة التحاور.
رابعاً : الصين على لسان رئيسها شي جي بينغ حذّرت من تحويل الغذاء والطاقة الى سلاح، مجددةً معارضتها في الوقت عينه للعقوبات الغربية على روسيا، وهذا الموقف المتوازن إن دل على شيء فعلى عدم تغطية الصين لحليفها الروسي في حربه على أوكرانيا، والمعروف أن الصين بنت سياستها الخارجية على استقرار العالم اقتصادياً.من هنا نجد أن الصين نفّست الاحتقان في موضوع تايوان، مؤكدة في الوقت عنيه على حقها في تايوان ولكن من دون مواجهات عسكرية مع الأميركيين أو حلفائهم في المنطقة رغم الاستفزاز السياسي والعسكري الأميركي في تايوان مؤخراً، وهذا النهج الصيني المنطوي على ذكاء سياسي ورقي في العلاقات الدولية يُبعد بيجين يومياً عن مؤازرتها الرئيس بوتين، وهي تمسك بالعصا من وسطها بحيث لا تقبل بغزو أوكرانيا ولا تقبل بالعقوبات على موسكو، فأولويات الصين الانفتاح على العالم اقتصادياً وثقافياً بينما أولوية موسكو تحدي العالم الغربي والانغلاق عنه لتنفيذ أجندة عقائدية إتنياً وسياسياً : فالولايات المتحدة الأميركية أكبر سوق للبضاعة الصينية على سبيل المثال لا الحصر،ومن مصلحة بيجين أن ينخفض سعر برميل النفط وتنخفض أسعار الطاقة في العالم كونها المستودر الأول للطاقة، من هنا فإن الاستقرار العالمي أساس جوهري في سياسة الصين الخارجية، فهي لم تكن يوماً إمبراطورية خلافاً للإمبراطورية الروسية والإمبراطورية الفارسية، لكن بإمكان الصين أن تسيطر على اقتصاد الروس عندما يضعف هذا الاقتصاد فتصبح روسيا الضعيفة في أحضان الصين، وهذا ما يقلق الأوروبيين والأميركيين في الوقت نفسه.
خامساً : "قمة العشرين" التي شهدت لقاءً تاريخياً بين ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والرئيس التركي رجب طيب اردوغان، رسمت استراتيجية جديدة لمحاصرة إيران، إذ من المتعارف عليه أن أي اتفاق تركي - عربي يحاصر إيران ويقضي على نفوذها في المنطقة.وما يزيد من احتمالية اتفاق بين العرب والأتراك ضد إيران الحديث الأخير للرئيس الاذربيجاني الذي أوحى بوجود قرار من الدول السبع التركية بتشجيع انسلاخ الشعوب التركية في الدول المجاورة للدول التركية عن دولها للانضمام الى دولها التركمانية الأصلية.هذا الكلام الذي يستهدف إيران التي تضم أقلية اذرية، وروسيا التي تضم جمهورياتها شعوباً تركمانية قد تكون المسبّب الأول لتحالفهما الحالي في أوكرانيا.