بدايةً لا بد من التعريف بمجموعة " بريكس " وهي تجمّع دول أُنشئ عام 2011 ويضم بعضويته خمس دول من ذوات الاقتصادات الحديثة : البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا.
ويُعدّ منتدى بريكس منظمة دولية مستقلة تعمل على تشجيع التعاون التجاري والسياسي والثقافي بين الدول المنضوية بعضويته، وتعتبر كل دول بريكس الخمس، ربما باستثناء روسيا، نامية أو دولاً صناعية جديدة تتميز بضخامة اقتصاداتها.
وقد حققت كل الدول الأعضاء، باستثناء روسيا، نمواً مستداماً أكثر من معظم البلدان الأخرى خلال فترة الكساد، وتحوز راهناً دول البريكس في الاقتصاد العالمي بنصيب كبير من احتياطيات العملة الأجنبية التي تبلغ نحو 40% من مجموع احتياطيات العالم إذ ان الصين تملك لوحدها 2.4 تريليون دولار تكفي لشراء ثلثي شركات مؤشر ناسداك مجتمعةً، كما تُعتبر ثاني أكبر دائن بعد اليابان.
لكن الأهم بالنسبة للدول الأعضاء في هذا التجمع هو إيصال رسالة قوية للولايات المتحدة بأن أكبر الدول النامية لها خياراتها من دون الحاجة لواشنطن.
والمعلوم أنه يعيش في الدول الخمس نصف سكان العالم، ويوازي الناتج الإجمالي المحلي لهذه الدول مجتمعةً ناتج الولايات المتحدة (13.6 تريليون دولار) ويبلغ مجموع احتياطي النقد الأجنبي لدول المنظمة أربعة تريليونات دولار.
وتمثّل مجموعة بريكس أكبر اقتصادات خارج منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وهي نادي الأغنياء بالنسبة للاقتصادات الناشئة.
أهم تحديات المجموعة تحقيق مهمة تدويل عملاتها المحلية بحيث بإمكان الدول الخمس عقد الصفقات وتبادل أسناد القروض عبر تأسيس آليات نقدية ثنائية أو بين الدول الخمس، وتأسيس منظومة تعاون نقدية متعددة المستويات بين دول المجموعة.
وكانت مجلة إيكونوميست البريطانية أقد نشرت مؤخراً دراسة أظهرت إمكان دول المجموعة تأسيس صندوق بحجم صندوق النقد الدولي إذا ما تخلّت عن سدس الاحتياطي.
والمعلوم أن الرئيس الروسي فلادمير بوتين كان قد أشار في أواخر العام الماضي الى قرب إعلان عملة موحدة لاتحاد اقتصاديات الدول الأعضاء وقد بدأت روسيا والصين خطوات جادة على طريق التعامل بالعملتَين الرئيسيتين بتجمع "بريكس"، وهما الروبل الروسي واليوان الصيني، ومن بين مؤشرات تلك الخطوة إعلان مجموعة غازبروم الروسية العملاقة للطاقة في سبتمبر/ أيلول 2022 عن أن الصين ستبدأ سداد ثمن شحنات الغاز الروسي بالروبل واليوان بدلاً من الدولار.
وفي نفس السياق، كان الرئيس الروسي بوتين قد أعلن خلال انعقاد منتدي أعمال تجمّع "بريكس" في بكين في حزيران الماضي أنه يجري العمل على إنشاء عملة احتياطية دولية، على أساس سلة من عملات بلدان مجموعة "بريكس"، مؤكداً أن العملة الجدية تعالج المشكلات المزمنة في الاقتصاد العالمي التي برزت نتيجة تصرفات الغرب بحسب قوله.
الجهد الروسي هو باتجاه إيجاد عملة بديلة عن الدولار نتيجة العقوبات الاقتصادية غير المسبوقة التي وقّعتها الولايات المتحدة والغرب على روسيا بعد بدء الحرب مع أوكرانيا مما جعل فرص وصول الجانب الروسي الى الدولار صعبة ومحدودة خاصة منذ قرار تجميد نصف احتياطي النقد الأجنبي الروسي، وهو ما شجّع الصين ورسيا على دفع دول المجموعة لإيجاد عملة احتياط.
وبحسب المراقبين، يمكن اعتبار إعلان مجموعة "غازبروم" الروسية للطاقة عن السماح للصين بسداد ثمن شحنات الغاز الروسي بالروبل والليوان بدلاً من الدولار، ضربة قوية من شانها التأثير على فاعلية العقوبات الغربية المفروضة على روسيا خاصة وأن هذا الإجراء أتى بالتزامن مع جهود حثيثة تُبذل لتسريع الإعلان عن العمل على إنشاء عملة احتياطي دولية تعتمد على سلة عملات دول المجموعة بحيث تصبح هذه العملة في أساس إسقاط معاهدة "بريتون وودز" ـ التي بموجبها تربّعت الولايات المتحدة الأميركية على عرش السيطرة على الاقتصاد العالمي بعد اعتماد الدولار الأميركي.
الصين وروسيا تحاولان اذاً بشكل فردي أو ثنائي الانقلاب على نظام الدولار العالمي، ولكن محاولاتهما لم يُكتب لها النجاح في أكثر من مرة، ولم تنجح بالتالي في التأثير على الدولار إذ ان جانباً كبيراً من احتياطيات دول بريكس هو بالدولار الأميركي واستبداله بعملة جديدة سيضرّ باقتصادات تلك الدول بالدرجة الأولى، فضلاً عن استمرار تقييم الديون بالدولار، ما يصعّب كثيراً إحلال عملة جديدة محله .
يبقى أنه ومن الناحية المالية والاقتصادية الصرفة، فإن خيار إنشاء دول مجموعة "بريكس" عملة احتياط جديدة، في إطار سعيها للتخلّص من هيمنة الدولار الأميركي أفضل بكثير من استخدام إحدى العملات المحلية لتلك الدول في المعاملات التجارية، ومن الأفضل لها أن تلجأ لاستخدام عملة مشتركة في ما بينها.
لكل هذه الأسباب، فإن روسيا والصين ستواجهان صعوبات في الانتقال من الدولار إلى العملتَين المحليتين في التبادل التجاري، كونه لا زال العملة الأقوى في العالم، غير أن المكسب الكبير سيعود على الصين التي أمامها فرصة كبيرة لزيادة صادراتها إلى روسيا، لا سيما أن الأخيرة تعاني من عقوبات أوروبية وغربية ولم تنجح الى الآن أية عملة أخرى بما فيها اليورو واليوان من "زحزحة" الدولار من مكانه المركزي في الاقتصاد العالمي وفي الأسواق المالية العالمية، حيث يُمثِّل الدولار العملة الاحتياطية الأوسع انتشاراً في أرجاء العالم، وهو العملة الأساسية في التجارة العالمية والعملة الريادية في المؤسسات المالية العالمية، كما يسيطر الدولار أيضاً على الأسواق العالمية للأسهم وعلى أسواق السلع والودائع البنكية، والتمويل الإنمائي والاقتراض، مع العلم أنه في ما يتعلق بالتعاون الاقتصادي والمالي، فقد أطلقت دول البريكس آليات رئيسية مثل بنك التنمية الجديد وترتيب الاحتياطي الطارئ، وصاغت استراتيجية الشراكة الاقتصادية لبريكس 2025 ، وأقامت شراكة بريكس بشأن ثورة صناعية جديدة في محاولة للقيام بذلك.
يمكن للمرء أن يسافر بعيداً فقط من خلال مراعاة رحلة الماضي الا أن الوصول راهناً الى عملة عالمية جديدة في التعاملات الاقتصادية والتجارية والمالية أمر سابق لأوانه،
فالنية والقرار والتصميم موجودين لدى تلك الدول للانتقال من الدولار الى عملة جديدة، لكن هذا الانتقال دونه صعوبات راهناً خاصة مع انضمام دول عربية كالمملكة العربية السعودية التي أعلنت رغبتها بهذا الانضمام حيث لعضويتها تداعيات ونتائج أبعد من مجرد التنمية والنمو الاقتصادي وتعزيز اقتصادات الدول النامية، لتصل الى حد القطع النهائي مع الولايات المتحدة الأميركية والغرب في حال اعتمدت الرياض على غير العملة الأميركية في وضعها الراهن، الأمر الذي لا يبدو أنه على أجندة القيادة السعودية راهناً.