منذ قمة العشرين الأخيرة في الهند وما تخلّلته من توقيع اتفاقيات وبروتوكولات بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأميركية بشخص كل من ولي العهد الأمير محمد بن سلمان والرئيس جو بايدن، وبخاصة إتفاقية الممر الهندي الى أوروبا، والتحليلات والتأويلات تتكاثر حول ما اذا كانت الرياض تتجه مجدداً للتخلّي عن الصين لتعود الى المراهنة على الولايات المتحدة الأميركية .
الثقة بين الرياض وواشنطن لم تُرمم بعد
بداية دعونا نذكر بأن الرياض والقيادة السعودية الحالية لا تنظر الى العلاقات بينها وبين الصين وبينها وبين الولايات المتحدة إلا من منظار ما يؤمن مصلحة المملكة العليا، وبالتالي إينما وجدت المصلحة السعودية يكون بالإمكان الاتفاق والعكس صحيح،
ودعونا أيضاً نذكر بأن الثقة بين الرياض وواشنطن لم تترمم بعد كما يجب رغم كل التصاريح والمبادرات والزيارات الأميركية على أعلى المستويات الى المملكة في الآونة الأخيرة، ومنها تصاريح الرئيس الأميركي نفسه التي تحاول تصحيح الأخطاء والتوترات التي شابت العلاقات بين البلدين في السنتين الأوليين من عهد الرئيس بايدن.
السلّة الأميركية لا يؤمن جانبها بالنسبة الى الرياض
انطلاقاً من الملاحظتَين التمهيديتَين أعلاه، يمكن فهم حقيقة العلاقات القائمة بين الرياض وكل من بكين وواشنطن، إذ ليس صحيحاً أن الرياض تتخلّى عن الصين من أجل أميركا، كما ليس صحيحاً أنها مستعدة لوضع كل "بيضها" مجدداً في السلة الأميركية التي لا يؤمن جانبها بحسب أجواء القيادة في المملكة، وليس صحيحاً أيضاً اعتماد الرياض على ضمانات أمنية أميركية بديلاً عن الضمانات الأمنية الصينية.
ثمة تطوّر خطير قد وقع منذ يومين على الحدود بين المملكة واليمن تمثّل في اعتداء الحوثيين وقتلهم لضابطين بحرينيين، لكن الصحيح أيضاً أن هذه الحادثة، على خطورتها وخطورة الرسائل التي حملتها من إيران الى السعودية، لا تعني سقوط ضمانات صينية، لأنه وبكل بساطة لم تضمن بكين أية أمور أمنية في رعايتها الاتفاق السعودي- الإيراني.
النووي السعودي لردع النووي الإيراني
في حديثه الأخير لقناة فوكس نيوز، كان ولي العهد السعودي واضحاً وضوح الشمس حين عبّر عن إصراره على امتلاك السلاح النووي لردع النووي الإيراني في حال امتلاك طهران لهذا السلاح، فيما طهران ردّت على هذا التصريح عن طريق اليمن ومن خلال الحوثيين الذين لا يقدمون على أي خطوة من دون ضوء أخضر إيراني مباشر، ورغم أن وفداً من الحوثيين زار مؤخراً الرياض والتقى وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان للتباحث في عملية السلام المزعومة في اليمن والترتيبات المطلوبة لتحقيقها،
لكن تلك الزيارة بدت مثمرة إلا أنه ما إن رجع الوفد الحوثي الى اليمن حتى تدخّلت طهران، فتم اغتيال الضابطَين البحرينيين على الحدود الجنوبية للملكة.
الهجوم الحوثي الأخير والرسالة الإيرانية للسعوديين
قيل إن بكين كانت قد أعطت ضمانات للسعودية بأن إيران لن تسمح لميليشيات الحوثي في اليمن من القيام بأي عملية عسكرية ضدها، لكن هذا الكلام غير صحيح ومن الخطأ الربط بين الاستعراض العسكري الهزلي للحوثيين واغتيال الضابطَين البحرينيين وبين الدور الصيني الذي يفترضه البعض خلافاً للواقع والحقيقة.
لا شك أن الهجوم الحوثي الأخير هو رسالة إيرانية رداً على تصريحات الأمير محمد بن سلمان حول النووي والرسالة الإيرانية للسعوديين مفادها بأن باستطاعة طهران إزعاج وتهديد أمن المملكة والمنطقة ولو تملّكت الرياض النووي، وذلك عبر ميليشياتها وبخاصة الحوثيين في اليمن، إذ ثمة ثابتة يجب أن لا ننساها وهي أن إيران التي لطالما كانت محكومة من نظام الملالي لا يمكنها التخلّي عن مشروعها الطائفي في المنطقة، ولا يمكن بالتالي وبأي حال من الأحوال تخلّيها عن ذاك المشروع مع وجود النظام الإيراني الحالي، ومع ذلك لا يمكن أن تقرر الرياض الاعتماد على ضمانات أمنية أميركية بدل الصينية لأنها لم تطلب من الصين ضمانات أمنية، وبالتالي فإن بكين ليست معنية بالشقّ الأمني، فيما القرار السعودي بإعادة العلاقات مع إيران هو قرار استراتيجي له أهداف عدة أهمها سحب ورقة الضغط الإيرانية من يد واشنطن وحلفائها وأولهم إسرائيل التي لطالما استثمرت لا بل ابتزت السعودية والخليج بورقة التهديد الإيراني لأمنهم وأمن المنطقة.
الانتهاء من " الفزاعة الإيرانية"
الرياض إذاً تصرّفت باتفاقها مع إيران على أساس الانتهاء من " الفزاعة" الإيرانية وسحب تلك الفزاعة من مجال الضغط الأميركي- الإسرائيلي الذي توسّل التوصّل مع الرياض الى تطبيعٍ مجاني، وهي أي الرياض، لم تشترط ضمانات أمنية صينية لإعادة العلاقات مع طهران، وبالتالي لم تفشل بكين في المجالات الأمنية لأنها لم تكن منذ البداية مدعوة من الرياض لتقديم مثل تلك الضمانات.
والحقيقة أيضاً أن الرياض تحالفت مع بكين لتأمين مصالحها وليس من أجل معاداة واشنطن التي عندما قرّرت تحسين علاقاتها مع الرياض وافقت الأخيرة على هذا التوجه الأميركي من دون أن يعني ذلك التنازل عن علاقاتها بالصين، فالعلاقات مع السعودية ليست تفاضلية بين واشنطن وبكين بل تكاملية بالنسبة لها.
إتفاقية دفاع مشترط شرط للتطبيع
الرياض تريد من واشنطن اتفاقية دفاع مشترك كشرط من شروط التطبيع تضمن بموجبها بان واشنطن ستردّ الاعتداءات الإيرانية عنها، لكن كما سبق وقلنا فإن الرياض لا تثق بالبيت الأبيض وسياساته خصوصاً وأن تجربة سيطرة إيران على العراق والحوثيين على اليمن كلها أحداث كانت مخطّطة أميركياً في إطار اعتماد واشنطن على إيجاد توازن إقليمي بين القوتين السنّية والشيعية.
الرياض لم ولن تنسى أن هجمات أرامكو حصلت تحت نظر وأعين الأميركيين الذين لم يحموا المنشآت، فالسياسة الأميركية في المنطقة متغيّرة على الدوام وقوة إيران لصالح واشنطن وتل أبيب ضمن المخطط الأشمل للمنطقة بتقوية العنصر الشيعي على حساب المكوّن السنّي.
وانطلاقاً من هذا التحليل، لا يمكن للرياض أن تعوّل مجدداً على واشنطن وحدها، فالأمير محمد بن سلمان لا يثق بالأميركيين بناءً على التجارب السابقة، ولذا لم يعد بإمكان الرياض إلا الإبقاء على بديل متوازن هو الصين لِما في ذلك من مصلحة سعودية.
علاقات آنية لا تحالفات استراتجية طويلة الأمد
العلاقات السعودية- الاميركية تبقى اذاً مصلحة آنية لا علاقة لها بتحالفات استراتيجية طويلة الأمد، فالرياض تسعى الى برنامج نووي وهي تعرض بالتزامن على الصين وعلى أميركا بناء مشروعها لتساومهما مع بعضهما بحثاً عن العرض الأفضل لها.
طبعاً الرياض تفضّل الخيار الأميركي لبناء مشروعها النووي لكن في حال إحجام واشنطن عن الموافقة عليه فلن تجد أي حرج بالتعامل مع بكين لتحقيق مشروعها.
لا صداقة مع السعودية بوجود حكم الملالي
إيران من جهتها، وإن وقّعت اتفاقاً مع المملكة إلا أنها لم ولن تغيّر نهجها، ولن تتحوّل الى صديق للسعودية طالما يحكمها الملالي، وستستمر في اعتداءاتها على المملكة بأي شكل من الأشكال لتحقيق أهدافها الإقليمية،
فالخيار السعودي ليس متأرجحاً بين بكين وواشنطن، ولن تتخلى عن أي منهما طالما أن المعيار هو مصلحة المملكة العليا.