منطاد العودة الى حرب باردة

2023040207-602956907

إنتهت واقعة المنطاد الصيني فوق الأجواء الأميركية الا أن النتائج التي ترتّبت والمضاعفات التي ستجرّها هذه الحادثة تبقى موضع مراقبة وتحليل من قبل المراقبين والمحلّلين المهتمين كافة.
المستفيد الأول والرئيسي من هذه الحادثة هو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حيث أن الحادثة أبعدت عنه شبح التقارب الصيني- الأميركي الذي كان يتوجّس من حصوله في الأشهر الأخيرة على حسابه.

بيجين أقالت رئيس هيئة الأرصاد الصيني في ردة فعل عبّرت عن غضب الصينيين من التصرف الأميركي الذي اعتبروه مفرطاً في القوة ضد هدف مدني ( تذكير بأن الصين كانت قد اعترفت بأن المنطاد تابع لها وأنها أطلقته لأهداف علمية ذات علاقة بدراسة الأحوال الجوية ) واحتفظت الصين بحق الرد.
هذه الواقعة كمثلها من واقعات أخرى تتكرّر بين الدول كافة وأعمال التجسّس إن صح الاتهام الأميركي بحق طبيعة مهمة المنطاد الذي أُسقط تتكرّر يومياً، إذ ان الجميع يتجسّس على الجميع في هذا العالم المتجه أكثر فأكثر نحو مزيد من المزاوجة بين التكنولوجيا المتقدّمة والعنف المادي.
التجسّس قائم بين الحلفاء وليس فقط بين الأعداء، فالولايات المتحدة نفسها ضُبطت في فضيحة تجسّس على حليفتها المانيا عام 2015 مستهدفاً مكالمات المستشارة ميركل في حينه.

إسرائيل ضُبطت أكثر من مرة في عمليات تجسس على الأميركيين مرة عام 2021 حين ضبطوا بالتجسس على هواتف مسؤولين في وزارة الخارجية الأميركية وقصة الجاسوس الإسرائيلي جوناتان بولارد، والذي حُكم عليه بثلاثين عاماً من السجن لتورّطه في عملية تجسّس على أميركا لصالح إسرائيل،
والتجسّس اذاً لم يكن يوماً حكراً على دول متصارعة أو متصادمة أو عدوة لبعضها، فالكل يتجسّس على الكل، والمسألة قديمة بقدم تطور الحروب من الحربين العالميتين الأولى والثانية وصولاً الى الحرب البادرة وما بعد الحرب الباردة.

الجدير ملاحظته أن أخباراً سُرّبت في شهر تموز 2020 بأن واشنطن بصدد تطوير مناطيد وبالونات تجسس ضد الصين وروسيا، ما يؤكد أن مثل هذه الأعمال أمر عادي ومتكرّر على مدى عقود، ولا يستوجب بالتالي الكم من التوتير والعصبية في ردود الفعل خاصة وأن أمور التجسّس من باب التحصيل الحاصل أصبحت الخبز اليومي في العلاقات بين الدول منذ عقود وعقود.

في عالم الاستخبارات العالمية معادلة مفادها أن استخدام المناطيد أقل كلفة من وسائل تكنولوجية أخرى حديثة كالساتلايت مثلاً، وهي فضلاً عن كون كلفتها متدنّية فهي أيضاً لا تلفت النظر لدى مرورها أو تحليقها فوق المناطق والبحار، إذ غالباً ما تُعتبر إما أداة بحثية علمية أو وسيلة ترفيه وسياحة وهي تحلّق على علو منخفض وتحوم فوق أهدافها.

حادثة المنطاد الصيني أثارت مجدّداً الهوس الأميركي من الصعود الصيني كقوة دولية منافسة، وهذا ما يفسّر الحالة العصبية التي واجهت بها إدارة البيت الأبيض المنطاد المذكور، رغم أن وكالة الاستخبارات الأميركية كانت قد قلّلت من خطورة المنطاد الصيني واعتبرته غير خطير على الولايات المتحدة الأميركية، ومع ذلك توتّرت واشنطن من هذا المنطاد تعبيراً عن توجّسها من أي تحرك صيني تعتبره واشنطن معادياً لها.

واشنطن ترى في أي تحرّك صيني من أي نوع كان مصدر قلق وتهديد لها ولمصالحها الدولية،
والتوتر الأميركي أيضاً مصدره أجواء الانقسام الأميركي الداخلي التي تعيشها أميركا عشية انطلاق الحملات الرئاسية الأميركية حيث الصدام الجمهوري - الديمقراطي على أشدّه، فالجمهوريون يتهمون الديمقراطيين بضعف إدارتهم ما مكّن الصين من التطاول على هيبة الولايات المتحدة الأميركية وأمنها وسيادتها من خلال اختراق المنطاد الصيني أجواء اميركا.
الديمقراطيون ردوا على اتهام الجمهوريين بأن الصين اخترقت الأجواء الأميركية 3 مرات في عهد الرئيس دونالد ترامب ومع ذلك لم تفعل إدارته شيئاً .

بعض النواب الجمهوريين طالبوا باستقالة الرئيس جو بايدن ونائبته كمالا هاريس نتيجة واقعة المنطاد الصيني، ما يشير الى استغلال الجمهوريين أجواء الانتخابات لتأجيج الضغط على الديمقراطيين.

الآراء في واشنطن منقسمة حول الموقف الذي يجب على الأميركيين أن يتخذوه من الصين : أكثرية تطالب بالاقتصاص من الصين باعتبارها عدواً لدوداً، وأقلية تدعو الى الحفاظ على علاقات إيجابية مع الصين وتنظيم الاختلافات والخلافات بين الولايات المتحدة والصين.

"لوبيات" الأسلحة وتجارة الأسلحة تقف أيضاً الى جانب الحرب بين واشنطن وبيجين وهي أيضا قوة مؤثرة لتنمية تجاراتها واستثماراتها، فضلاً عن الشركات الأميركية الضخمة المتخصّصة في البنى التحتية حيث تجد في الشركات الصينية منافساً يجب القضاء عليه.

الأكيد أن الصين غير راغبة وغير قادرة راهناً على الذهاب الى توتير العلاقات مع الأميركيين الى الآخر لأسباب عدة ليس أقلها راهناً، وهي الخارجة من أزمات اقتصادية كبيرة بعد حصول الإغلاق الاقتصادي عندها لفترة طويلة وتراكم عقوبات أميركية متتالية وتصاعدية في حق شركات الصين الكبرى ومحاولة حرمان الصينيين من التكنولوجيا الغربية المتطورة.

واشنطن ترحب بالتهدئة مع الصين في هذه المرحلة الزمنية لمنع الرئيس بوتين من استثمار الخلاف الأميركي- الصيني لصالحه على خلفية الصراع بين موسكو والناتو وواشنطن في أوكرانيا، فيما
البعض في واشنطن ينظر الى العلاقات الصينية- الأميركية بمنظار جيو استراتيجي هادف الى ضرب إسفين بين بيجين وموسكو تماماً كما فعلت الديبلوماسية أيام الوزير الأميركي هنري كيسنجر عام 1972 عندما تقرّبت واشنطن من بيجين حين زار الرئيس ريتشارد نيكسون الصين بعد تمهيد كبير قام به وزير خارجيته كيسنجر آنذاك مع الصينيين للاستثمار في القطيعة السوفياتية- الصينية في تلك الفترة.

في قمة " بالي " الأخيرة، كان الرئيس بايدن واضحاً حين التقى نظيره الصيني عندما قال له إنه لا يرى ضرورة لحصول حرب باردة جديدة بين البلدين.
وفي كانون الثاني الماضي، التقت وفود صينية و أميركية في ميونيخ للتباحث في سبل التعاون، وحُدّد موعد زيارة وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن الى بيجين الى أن حصلت حادثة المنطاد التي اضطرت الوزير الأميركي الى تأجيل زيارته المرتقبة للصين.

سوء الطالع اذاً يجعل مجدداً من الصين بنداً أساسياً في عام الانتخابات 2023 وموضوعاً دسماً في الحملات الانتخابية الأميركية، ما سيؤدي الى تراجع الإيجابيات التي كانت بدأت تُسجّل في العلاقات بين البلدين لتعود الى مربعها الأول من التوتير والتصعيد في ظل الدعايات الانتخابية المناهضة للصين.

رئيس مجلس النواب الأميركي الجمهوري المنتخَب كيفين مكارثي أفصح في 29 الشهر الماضي عن رغبته في زيارة تايوان أي تكرار مبادرة خليفته نانسي بلوسي الديمقراطية في خطورة استفزازية واضحة جديدة ستزيد التوتر بين الولايات المتحدة الأميركية وتصبّ الزيت على نار العلاقات المتوترة والمشدودة قد يؤدي الى انفجار كبير محتمل بين البلدين.
كما أن واشنطن عادت لتتهم بيجين بدعم روسيا غير المباشر في حربها ضد أوكرانيا فيما الرئيس الصيني تشي يتعرض لضغوط من داخل معسكره المنقسم الى رأيين : واحد يدعوه لمزيد من الانفتاح على الغرب وإصلاح التوترات معه، ورأي إخر متشدّد يضغط على رئيسهم باتجاه عدم التصالح مع الأميركيين واعتبار المواجهة مع الغرب الأنسب،
فهل نعود الى أجواء الحرب الباردة مع فشل المرحلة الانفتاحية والتصالحية بسبب حادثة المنطاد ؟
سؤال نتركه للأسابيع والأشهر القليلة المقبلة الإجابة عليه.

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: