لا تزال العلاقات الأميركية- السعودية تشغل قسماً كبيراً من المحلّلين والمراقبين والخبراء بعد الأزمات التي مرّت بها تلك العلاقات منذ اعتلاء الملك سلمان بن عبد العزيز عرش المملكة ومعه إبنه ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.
في الضمير الجماعي ومنذ الخمسينيات على أقل تقدير، كنا عندما نتكلم عن المملكة العربية السعودية نردف فوراً ومن دون تفكير صفة حليفة الولايات المتحدة في المنطقة والخليج.
ولهذه الحقيقة ما يسندها بالتأكيد إذ أن عراقة العلاقات الثنائية بين البلدين تكرّست عبر العقود ومنذ اتفاق "كوانسي" لم تدع مجالاً للتشكيك يوماً بإمكان حصول انفصال أو طلاق بين البلدين، بحيث أمكن تشبيه العلاقات بينهما بالزواج الأبدي الذي لا يمكن حلّ رباطه.
صحيح أن تلك العلاقات تعود تاريخياً إلى العام 1933 إلا أنها لم تكتسب الزخم والقوة الا في العام 1945 عندما التقى الرئيس الأميركي ثيودور روزفلت الملك عبد العزيز بن سعود سراً على متن المدمّرة الأميركية المسماة "كوينسي" والتابعة للبحرية الأميركية في قناة السويس، وذلك بهدف تقريب المملكة العربية السعودية من مجال النفوذ الأميركي والوصول إلى نفطها في مقابل تحالف مطبق بينهما شكّل في أحد جوانبه سبباً للصراع الخفي بين الرئيس جمال عبد الناصر والمملكة، ذاك أن الأخير كان ينظر الى المملكة على أنها خطر أميركي على نهج الناصرية الذي كان يتوسّع نفوذاً في العالمين العربي والإسلامي في الخمسينيات.
تلك العلاقات الثنائية بين الأميركيين والسعوديين تدعمت أكثر فأكثر مع الوقت من خلال ما اصطُلح على تسميته بـ"عقيدة كارتر" في ظل القلق من التوغّل السوفياتي المحتمل في الخليج العربي الغني بالنفط.
خلفية هذه العقيدة وظروفها تجد منبعها في المرحلة التي تلت غزو أفغانستان عام 1979، حيث أعلن الرئيس الأميركي في حينه جيمي كارتر استعداد الولايات المتحدة لاستخدام مواردها العسكرية للدفاع عن مصالحها في الشرق الأوسط عند الاقتضاء.
تلى هذا الموقف تأسيس القيادة المركزية الأميركية (سنتكوم)، التي كانت تُعرف في السابق بإسم "قوات المهام المشتركة للانتشار السريع" لإضفاء طابع القوة على "عقيدة كارتر"، وبناء وجود عسكري أميركي أوسع في المنطقة ترجمةً للتعهد الأميركي المشار اليه.
شهد التاريخ الحديث محطات عدة تم خلالها وضع المبدأ قيد التنفيذ ومنها في العام 1990 عندما غزى الرئيس العراقي الراحل صدام حسين دولة الكويت، حينها ردّت الولايات المتحدة بإطلاق "عملية درع الصحراء" للدفاع عن السعودية وحمايتها.
وفي العام 1991، ومن أجل تحرير الكويت، حوّلت "عملية درع الصحراء" إلى "عملية عاصفة الصحراء"، وبعد أسابيع معدودة حرّر الجنود والبحارة والطيارون الأميركيون الكويت من الاحتلال العراقي محقّقين نصراً عسكرياً ساحقاً على العراقيين.
تلك التدخّلات العسكرية الأميركية أدت الى ضمان حماية المملكة العربية السعودية والمنطقة بفعالية، وأُطلق ما عُرف بـ"الباكس أمريكانا" أي السلام الأميركي في المنطقة مع تعمّق وتجذّر ثقة المملكة باستعداد واشنطن للدفاع عنها وقدرتها على القيام بذلك.
الوجود الأميركي في المنطقة أصبح أساس كل الحسابات الجيو سياسية والاستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط، وقد تخلّله قرار أميركي بالتدخّل بين العامين 1990و1991 بمنع الرئيس العراقي صدام حسين من السيطرة على موارد الطاقة الغنية في الخليج، وكانت الرياض تشارك واشنطن رغبتها بالتخلّص من السيطرة العراقية.
من جهتها، ضمنت واشنطن من خلال حمايتها للمملكة وتحرير الكويت كهدف استراتيجي أوسع ألا وهو قيام نظام إقليمي صديق لواشنطن،
لكن هذه المعادلة تعرّضت لنكسات بدأت أولى تجلياتها في العام 1996 عندما فجّر عملاء سعوديون يعملون لمصلحة إيران تلقوا تدريبات من "حزب الله" مساكن أبراج الخبر في الظهران، ما أسفر عن مقتل 19 طياراً أميركياً وإصابة مئات آخرين، منهم مواطنون سعوديون. تلك الحادثة شكّلت تهديداً مباشراً وخطيراً للأمن القومي السعودي.
وعلى الرغم من إجماع الأدلة السعودية والأميركية على تورط إيران في هذا الانفجار إلا أن الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون قرّر عدم الردّ على إيران ما شكّل صدمة للسعوديين الذين لم يتقبّلوا بقاء طهران من دون محاسبة على تورّطها.
وفي العام 2019، هاجمت إيران منشآت نفطية سعودية في بقيق وخريص باستخدام 25 طائرة مسيّرة وصواريخ كروز، وشكّلت العملية صدمة للسعوديين والأميركيين، خاصة وأن الهجوم أثبت قدرة إيران على شنّ أعمال عدوانية علنية ومباشرة ضد أي دولة خليجية عربية رغم وجود الضامن الأمني الأميركي الرادع في الخليج.
ومع هذا الهجوم الإيراني عام 2019، إنتهت بالكامل ثقة السعودية بالتزام الولايات المتحدة تجاهها في المجال الأمني، فأبلغت الرياض واشنطن رغبتها في التهدئة بعد قصف منشآتها النفطية، وحضّت ترامب على عدم شنّ أي هجوم، لعدم ثقة السعوديين بأن الولايات المتحدة ستؤمن لها الحماية في حربها مع إيران اذا وقعت.
انطلاقاً من التجارب أعلاه، مروراً بالاتفاق النووي بين الولايات المتحدة والغرب وإيران عام 2015 الذي وقّع من دون الأخذ بالاعتبار الهواجس الاستراتيجية والأمنية لكل من السعودية والخليج إزاء إيران، بدأت التساؤلات تُطرح حول مستقبل العلاقات الأمنية الأميركية- السعودية، خاصة في ظل بيئة استراتيجية بات فيها التهديد للأمن القومي السعودي الذي تشكّله إيران وحلفاؤها الإقليميون، أكثر تعقيداً وخطورةً بالتزامن مع تغيّر المصالح الأميركية في الشرق الأوسط والأولويات حول العالم إلى حد كبير، بما يناقض تماماً "عقيدة كارتر".
هذه العقيدة أظهرت ارتكازها أولاً وأخيراً على نهج أميركي يهدف إلى تبديد المخاوف الأميركية ودعم الأهداف الاستراتيجية في الحفاظ على تدفّقات الطاقة الرخيصة والمستمرة من المنطقة إلى الولايات المتحدة والاقتصاد العالمي ليس إلا.
وبالفعل إذا أمعنا التدقيق في أحداث العام 2019 نلاحظ أن واشنطن لم تتدخّل عسكرياً لدعم الرياض لأنها لم تعتبر مصالحها الوطنية الحيوية في خطر. وفي تلك السنة نفسها، أصبحت الولايات المتحدة ولا تزال، أقل اعتماداً على نفط الشرق الأوسط بسبب ثورة الطاقة الخاصة بها والزيادات الكبيرة في الإنتاج، ما حوّلها مُصدّراً صافياً في عامي 2020 و2021 .
من حق الولايات الأميركية كأي دولة ذات سيادة أن تحدّد أولوياتها تبعاً لمصالحها الخاصة ولكن كلفة ذلك في العلاقات الأميركية- السعودية هي سقوط "عقيدة كارتر" لأنها لم تولِ الاهتمام الكافي لاحتياجات السعودية ومخاوفها واعتباراتها وأي شريك عربي آخر يتعرّض أمنه للخطر أو الاستهداف،
لذا لا يزال الترابط قائماً رغم سقوط مبدأ كارتر بين أمن السعودية ومصالح الولايات المتحدة، ولكن مع مزيد من النضج في تلك العلاقة بحيث أن السعوديين أدركوا أنه مهما كان الاميركيون حلفاء لهم إلا أن ضمان أمنهم وسلامة مواردهم ومصالحهم الأمنية والاستراتيجية لا يمكن أن تبقى تحت نظام حماية أميركية حيث لواشنطن أيضاً حساباتها ومصالحها التي قد لا تتفق أحياناً كثيرة مع أهداف ومصالح المملكة ودول الخليج والمنطقة.
وهذا النتوء في العلاقات الأميركية والسعودية هو الذي استفادت منه إيران منذ سنوات حيث صبّ الإيرانيون جهدهم باتجاه العمل على توسيع التصدّعات في العلاقة الأمنية بين الولايات المتحدة وشركائها العرب في الخليج، مستفيدين من أخطاء صدام حسين، ومدركين أن السيطرة على المنطقة لا تتطلب منهم نشر دباباتهم وغزو جيرانهم العرب، بل على العكس انتهاج الصبر واتباع منهجية مدروسة لممارسة الإكراه والترهيب ومفاقمة نقاط الضعف السياسية لخصومهم العرب، فيما واشنطن كان ردها خاطئاً على عدوان إيران الهجين والدقيق، فاختفت آثار عقيدة كارتر ومفاعليها وحلّ مكانها سباق أميركي- سعودي مبعثر كل في اتجاه لضمان مصالحه، الأميركيون مع إيران والسعوديون مع الصين وروسيا وسواهما،
لذا فإن العلاقات الأميركية- السعودية غير قابلة للالتحام مجدداً كما كانت طوال عقود ولا هي مرشّحة للانفصال والقطيعة، والبديل هو أن يقوم كل طرف بتأمين مصالحه مع الإبقاء على التنسيق والتعاون الأمني والاستراتيجي العسكري.