فرنسا دخلت مرحلة الزلازل السياسية الداخلية وارتداداتها…”قلب أوروبا النابض” في دائرة التطرّف  

francee

مما لا شك فيه بدايةً أن ما حصل ليل الأحد في فرنسا أكثر من أزمة سياسية ووطنية، إذ يرقى الى مستوى “زلزال تاريخي” بكل المقاييس : فمؤسس “حزب الجبهة الوطنية” الذي أصبحت تسميته الحالية “حزب التجمّع الوطني” لم يكن ليحلم يوماً بأن يصل الى السلطة في مواجهة اليمين “الشيراكي” والاشتراكية “الميترانية”، فها هو حزبه بعد أكثر من سبعين عاماً يطرق أبواب السلطة كم بوابة الانتخابات البرلمانية الأوروبية …

فشل سياسيات الحكم وراء فوز اليمين المتطرّف

إن ما حصلَ في فرنسا ليل الأحد الفائت والتداعيات الارتدادية المستمرة حتى الساعة لهذا “الزلزال السياسي” والمرشّح تصاعدها مع الأيام المقبلة مع دخول كافة القوى معترك الحملات الانتخابية إثر قرار الرئيس الفرنسي حلّ “الجمعية الوطنية”، والدعوة لانتخابات برلمانية مبكِرة على دورتين في الثلاثين من حزيران الجاري والسابع من تموز المقبل أي قبل  أسبوعٍ احتفالات فرنسا بالعيد الوطني في الرابع عشر من تموز، وبالتالي فإن كل ما حصلَ اذاً لم يكن ثمرة جهود فريق مارين لوبان وجوردان بارديلا بقدر ما كان ثمرة فشل سياسات الحكم وتحديداً سياسات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وأكثريته البرلمانية في معالجة القضايا الحساسة التي مسّت الفرنسيين وهدّدتهم في السنوات الأخيرة بأمنهم واستقرارهم وخبزهم  وأرضهم وإنتاجهم وصناعاتهم وتكنولوجيتهم … فضلاً عن الالتزام الحكومي الصارم بالقيود الأوروبية على التجارة والتبادلات ضمن منطقة “الشينغين” من دون مراعاة مصالح الفرنسيين والمنتجين منهم، ناهيك عن مرحلة الاضطرابات الأمنية التي انغمست فيها فرنسا في الإضرابات والمواجهات الدامية والأزمات الاقتصادية والاجتماعية، ما سمح لليمين المتطرّف (الاشتراكي في برنامجه الاقتصادي) وأزمة المهاجرين والتأثيرات الأمنية على انتظام الوضع الداخلي، وهي كلها ظروفٌ ساهمت وساعدت بفوز اليمين المتطرّف وحزب التجمّع الوطني الذي يرأسه جوردان بارديلا المدعوم من المرشّحة الرئاسية مارين لوبان.

مَن ضخّ الأوكسيجين في عروق اليمين المتطرّف الأوروبي؟!

 فضلاً عن ما سبقَ شرحه وعلى الصعيد الجيو سياسي، فإن فوز اليمين المتطرّف والذي جاء في سياق صعود التطرّف اليميني في دول أوروبية عدة جاء نتيجة إرهاصات عاملَين أساسيَين عانت منهما أوروبا : الأول الحرب في أوكرانيا والثاني تصاعد موجة الهجرة غير الشرعية فضلاً عن أسباب أخرى داخلية.

بالنسبة للحرب في أوكرانيا، وبعد أن كان هناك توجّهٌ ليبرالي بأن زمن الحروب في أوروبا قد انتهى مع سقوط حائط برلين وتفكّك الاتحاد السوفياتي في القرن الماضي، مرّرت أوروبا لصالح روسيا صفقة الاستيلاء على جزيرة القرم عام 2014 في مقابل الاطمئنان الى “تصفير المشاكل” والحروب مع الجار الشرقي وإنعاش أوروبا إقتصادياً ومالياً وتجارياً وتكنولوجياً، إلا أن الأخير مستستهلاً الموقف الأوروبي الذي بات مضعضعاً وقابلاً للانقسام شجّعَ الرئيس فلاديمير بوتين نفسه والمراهن على عدم انسجام أوروبا مع تصاعد التطرّف في هنغاريا وألمانيا وهولندا وإيطاليا على شنّ حربه على أوكرانيا، ما أدّى الى خلط الأوراق في كل الدول الأوروبية، فكانت إحدى النتائج الحتمية إعادة ضخّ الأوكسيجين في عروق قوى اليمين المتطرّف في القارة الأوروبية في ظل غياب السياسات الأوروبية والاستراتيجية الواضحة التي راهنت تلك القوى على نجاحها بغياب تلك السياسات.

لا لقواعد الاتحاد الأوروبي وقيوده

أما بالنسبة الى الهجرة، فقد أدّى تصاعد وتيرة المهاجرين الى أوروبا وعلى سواحلها أيضاً وغزو هؤلاء دول أوروبا كفرنسا وإيطاليا، مُضافاً اليها الحوادث الأمنية المتلاحقة التي شهدتها فرنسا ولا تزال في قسمٍ كبيرٍ منها، والتي كان العدد الأكبر من مفتعليها ومسببّيها من المهاجرين ما زاد من التشدّد في فرنسا كما في إيطاليا وفي المانيا، ما ساعدَ كثيراً في ضخ الأفكار اليمينية المتطرّفة الداعية الى تعزيز القوميات الوطنية وتفضيل الاقتصاد الوطني والتجارة الوطنية على قواعد الاتحاد الأوروبي وقيودها.

تصاعد اليمين المتطرّف من إيطاليا الى ألمانيا

من هنا، فإن كل الأسباب أعلاه مجتمعةً ساهمت في تصاعد اليمين المتطرّف من إيطاليا الى المانيا حيث ضعُفَ الحزب الحاكم بزعامة أولف شولتز، ما قيّدَ حراكه وسياساته مروراً بتصاعد التطرّف اليميني في النمسا فهولندا،

إلا أن تصاعد اليمين المتطرّف بشكل عام في أوروبا محفوفٌ بالكثير من الانتكاسات، ومنها على سبيل المثال لا الحصر ما حصلَ في إيطاليا حيث بنت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني جزءاً من برنامجها السياسي على إقفال حدود إيطاليا أمام المهاجرين، الأمر الذي عادت عنه عندما تولّت السلطة واضطُرت لطلب التعاون من المجموعة الأوروبية لردّ الموجات المهاجِرة عن بلادها وتقاسم أعباءها، إضافةً الى تشدّدها بالقوانين التجارية وبإعادة النظر بالبروتوكالات الأوروبية”.

قلبُ أوروبا النابض في قلب الخطر

ما حصل في فرنسا سابقةٌ في تاريخها السياسي لناحية أن يقترب اليمين المتطرّف خطوات قليلة من السلطة في البلاد، وهي أول تجربةٍ في “التاريخ الحديث” نتيجة سياسات الرئيس إيمانويل ماكرون التي لم تعطِ إجابات مقنِعة للفرنسيين حول مسائل الأمن والهجرة والتجارة، وقد عاشت فرنسا مؤخراً موجات من الإضرابات للمزارعين احتجاجاً على القيود والقواعد التي وضعتها بروكسل، ما أثّرَ سلباً في ضرب القطاع الزراعي من دون إيجاد حلولٍ فعلية، فضلاً عن مسائل الهجرة غير الشرعية وتصاعد التطرّف الإسلامي الى ما هنالك …

وبالمقارنة، فإن ما حصلَ في فرنسا أخطر بكثير مما حصل في إيطاليا وهولندا وحتى في النمسا مع رئيس الوزراء فيكتور أوربان صديق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لأن وصول التطرّف اليميني في فرنسا الى السلطة إن حصلَ فإنه سيقلبُ الكثير من المفاهيم والمعادلات في القارة الأوروبية وسيخلطُ الأوراق الجيو سياسية، ففرنسا هي قلبٌ أوروبا النابض وفي أساس قيام أوروبا الى جانب المانيا، وبالتالي فإن حصل هذا الأمر في فرنسا فإنه يقضي على سياسات أوروبية كبرى ستؤثر لا محال على مستقبل الحياة السياسية والجيو سياسية الأوروبية مستقبلاً، إذ إن قرار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بحلّ “الجميعة العامة” والدعوة الى انتخابات برلمانية عامة خلطَ كل أوراق التحالفات بهدف قطع الطريق أمام وصول اليمين المتطرّف الى السلطة، انطلاقاً من إعادة القرار للشعب في اختيار ما اذا كان يريدُ التطرّف في حكم فرنسا أم لا.

 رئيس حزب الجمهوريين الفرنسي أريك سيوتي فجّر أمس مفاجأة مدوّية أخرى بإعلان استعداده لبناء تحالفٍ مع التجمّع الوطني المتطرّف المنتصر في الانتخابات البرلمانية الأوروبية، مغرّداً خارج سرب حزبه وموقفه برفض أي تحالف مع اليمين المتطرّف …

 فرنسا إذاً دخلت مرحلة أزمة سياسية “عميقة” لا بل أزمة مصير نظام سياسي، أقله من الآن وحتى الثامن من تموز المقبل غداة الدورة الثانية من الانتخابات، فالأوراق اختلطت في التحالفات والجبهات والحسابات والمشهدية العامة مربكة باتجاه إعادة تشكيل المشهدية السياسية العامة في البلاد، وبانتظار المؤتمر الصحفي الموعود للرئيس الفرنسي خلال ساعات فإن فرنسا ستكون أكثر فأكثر  منشغلةً بقضاياها، مما قد يؤثر على فعالية وزخم مبادراتها الخارجية ولا سيما في موضوع لبنان، بغضّ النظر عمَّن سيحكم فرنسا اعتباراً من الثامن من تموز المقبل …

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: